لأن يوسف شاهين ليس مجرد مخرج حرفى ماهر وحسب، بل فنان صاحب رؤية، يمكنك تتبع عناصر هذه الرؤية عبر أفلامه جميعا، تتنوع وتتطور من عمل لآخر، لكن تظل محتفظة بجوهرها، فالرغبة فى الرحيل. من الجنوب القاسى إلى الشمال المترع بالآمال، المنفتح على آفاق أوسع، من الآمال التى تتوافر فى أفلامه، وقد تتحول إلى هاجس عند العديد من أبطاله: فى فيلمه المبكر «ابن النيل» 1951، يطالعنا الطفل «حميدة» شكرى سرحان عندما يكبر، يكاد لا يغادر محطة القطار، يخفق قلبه مع المسافرين، وحتى حين يحرث الأرض بفأسه يسمع، من داخل نفسه. صوت عجلات القطار وصفارته الطويلة، كما لو أنها نداهة، تدفعه للرحيل، ويتعمد يوسف شاهين، مع مونتيره كمال أبوالعلا، الانتقال ب«حميدة» من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب بالمزج على صورتيهما، وهو لايزال واقفا، منتظرا، على رصيف المحطة. فى المشاهد الافتتاحية ل«صراع فى الميناء»، تتابع الكاميرا وصول عمر الشريف العائد من السفر، عبر البحر، بعد غياب ثلاث سنوات. وعندما تثار المشكلات وتتدهور الأمور، يفكر فى التخلص منها، بالرحيل مرة ثانية. وما اختياره «باب الحديد» عنوانا للفيلم إلا تعبيرا عن شغف يوسف شاهين بتأمل مفترق الطرق، دموع المودعين وآمال المسافرين، الأشواق لأماكن جديدة، وربما الهرب من حياة ضنينة. والملاحظ أن شغف أبطال يوسف شاهين بالرحيل، تزايد تأججا مع «الاختيار» حيث يقتل المثقف أخاه البحار كى يعيش حياته. وأغلب الظن أن مخرجنا المرهف رصد بعينه اللاقطة تلك الهجرة الواسعة لأبناء البرجوازية الصغيرة، إلى خارج البلاد، عقب حرب 1967، وإذا كان الطفل الجنوبى الأسمر، الأقرب للمغامر، يشد عصا الترحال، من أقصى الصعيد، متجها للقاهرة، كى يحضر تراما من عتبات السيدة زينب. لعله يشفى صديقه العليل فى «العصفور»، فإن حلم السفر ينتاب إبراهيم، «هشام سليم» الهارب من مذبحة «عودة الابن الضال»، متجها مع حبيبته «ماجدة الرومى» إلى الشمال، نحو الثغر السكندرى، لاستكمال دراسته الجامعية، تمهيدا للذهاب إلى أمريكا، لدراسة علوم الفضاء. بعد عامين من «عودة الابن الضال» تتصاعد الرغبة فى الرحيل، فتصبح فى «إسكندرية ليه» 1978 لهاثا مضنيا، تشارك فيه الأسرة كلها، بهدف إتاحة فرصة السفر لابنها يحيى «محسن محيى الدين» عبر البحار، لدراسة السينما.. وإذا كان الواقع الذى يعيش فيه أبطال يوسف شاهين شديد الصعوبة، فإن واقع «اليوم السادس» 1986 مؤلم بحق، ذلك أن الكوليرا تطبق على البلاد، بكل ما تحمله من معان. مادية ومعنوية، فإلى جانب أنها وباء مرضى، فإنها أيضا تعبر عن حال وطن فى قبضة الاحتلال من ناحية، وتقام على حدوده دولة عدوانية من ناحية ثانية. وسط دوامة هذه الكوليرا، تحاول «صديقة» أو «داليدا» إنقاذ حفيدها المريض، وقد وقر فى ضميرها وعقلها أنه سيشفى إذا اكتحلت عيناه بمرأى البحر، لذا فإنها تصحبه معها فى مركب على النيل، متجهة به شمالا، كى تصل إلى الأبيض المتوسط، وبالقرب من المشارف، وبرغم رفع العليل إلى أعلى الصارى، تفيض روحه. قبل «اليوم السادس» وبعده، سواء فى «حدوتة مصرية» 1982، أو «إسكندرية كمان وكمان» 1990، يتجسد ظل يوسف شاهين نفسه، فى صورة المخرج الذى تضنيه الرغبة فى الاعتراف به خارج الحدود، ويكاد يجن من هستيريا السير على البساط الأحمر فى «كان» أو الوقوف فوق خشبة مسرح مهرجان برلين. لكن معظم محاولات أبطال يوسف شاهين، فى الرحيل، أو الهرب، أو الذهاب بعيدا، تنتهى بالخيبة والفشل: «ابن النيل» يغدو أضحوكة فى القاهرة. «قناوى» بطل «باب الحديد» القادم من «قنا»، ينتهى به الفيلم وهو فى طريقه لمستشفى الأمراض العقلية، المثقف، الكاتب المسرحى، فتقبض عليه الشرطة عقب افتضاح أمره. الصبى فى «العصفور» يضيع فى شوارع العاصمة «يحيى» فى «إسكندرية ليه» حين يصل إلى ما يظنه مرفأ الأمان، فى بلاد العم سام. يفاجأ مذعورا بتمثال الحرية الشهير وقد تحول إلى ملامح مروعة لامرأة شريرة، حمراء العينين، تضحك بسخرية ماجنة فتظهر أسنانها الشائهة، ويجلس تحت التمثال عدد من حاخامات اليهود، يرددون دعاءهم.. هكذا، إذا كان يوسف شاهين يؤكد، بمصائر أبطاله المهاجرين أن فكرة نجاة المرء بجلده لن تجدى فتيلا، فإنه فى «إسكندرية ليه» يحذر من مغبة تعليق الآمال على تلك البلاد البعيدة