لعل من أشهر الملاهى الوطنية التى شهدتها القاهرة ولا تزال تشهد بعضها إلى اليوم: ملهى بديعة مصابنى تلك المرأة الحازمة المغامرة الطويلة الأنف، التى تزوجت يوما من نجيب الريحانى، والتى كانت تنتقى نساء صالتها للترويج واصطياد الدراهم، فقد عرفت صالتها حكمت فهمى السمراء الداهية المغامرة، التى لفتت إليها القيادة البريطانية إبان حرب سنة 1939، وعرفت تحية كاريوكا البضة اللدنة، الثعبانية الرقصة والتى تهافتت عليها السينما وأعجب بها بعض الأمريكان فتزوجها. وعرفت ببا إبراهيم التى لا تزال تهز بطنها البرونزى وتضحك بفمها الواسع، وتستروح بأنفها المصرى القديم روائح النفع والاستهواء، وعرفت ببا عز الدين، التى تخرجت فى هذه الصالة، فقامت تنافسها وتطغى عليها حتى ورثتها ثم ماتت بعد ذلك قتيلة فى حادث من حوادث الطيش، وعرفت فتحية محمود البدينة السمراء المنولوجست، التى تمثل الجمال السالف، الذى كان يعجب الرجال فى القرن الماضى وفى أول هذا القرن، والتى تخرجت فيها أيضا وأصبحت صاحبة صالة تديرها وتشرف عليها خلف سينما ستوديو مصر فى شارع قنطرة الدكة، وعرفت صفية حلمى التى يخفى سنها قصرها، فتحسبها فى العشرين من عمرها، وهى قد جاوزت الأربعين تلك الفتاة الدقيقة الجسم الحلوة البسمة، التى تدهش الناس بسيطرتها على صالتيها: الأولى فى مشرب ليبتون القديم فى شارع محمد فريق حيث كان يجلس عرفى باشا، ومحمد إبراهيم هلال، وعطا حسنى، وشوقى الشاعر. ولم تزل تتطلع هذه الفتاة حتى جلست فى مكان بديعة مصابنى فى ميدان الأوبرا، وتلك صالتها الثانية حيث كان يفتح الجندى مقهاه فى إبان الحرب العظمى الأولى، وفى هذا المقهى كانت صوفى حبيبة الطلبة وأختها فاتنة الضباط الإنجليز. وفى الجيزة ضاحية القاهرة الجميلة يقع مقهى الحمام بأسراره العاطفية ومقهى كازينور بزبائنه الحالمين. وفى الحديقة التى يفضى إليها كوبرى الجلاء، التى يجلس فى أطرافها كل ليلة من ليالى الصيف: ليلى مراد البديعة الفم الحنونة الصوت وهدى سلطان الطيبة المنظر واللفاء القوام ومعها زوجاهما: فطين عبدالوهاب المخرج السعيد بزوجته الحسناء وفريد شوقى فرنكشتين الشاشة المصرية ومديحة يسرى السمراء الأم وزوجها محمد فوزى الذى هو ملحن أبرع منه مغنيا، وغير ذلك من فنانى المسرح والسينما، وفى هذه الحديقة ملهى كانت تنتقل إليه صفية حلمى فى الصيف وفى ناحية المنيل يقع ملهى فونتانا الحديث العهد الفخم بلياليه وأثمانه الغالية. فى قاهرة الفاطميين يتألق هذا المقهى العجيب الذائع الشهرة ذو الدهليز الطويل الذى تنتظمه مقاصير صغيرة صفت فيها موائد لا تعرف الأناقة ومقاعد تداعى أكثرها ولكنها محبوسة إلى السائحين من الأجانب الوافدين لمشاهد سر القاهرة القديمة فى أقدم مكان فيها، وهو محبوب أيضا إلى الفنانين من النساء والرجال، حيث يشربون الشاى الأخضر والأحمر فى أكوابه الصغيرة وبراريده الصينية المزخرفة الدقيقة وترى فيه المتسكعين من الفقراء والباعة والشحاذين. وفى شهر رمضان تقبل الدنيا على هذا المقهى فهناك تتوافد عليه كل طبقات المجتمع للسهر حتى الصباح فأصبح اسم مقهى الفيشاوى مقرونا بمدفع الإفطار والسحور. وفى حريق القاهرة اندثر بار باريزيانا ثم عاد ذلك البار الذى تعرفه القاهرة كلها بموائده المصفوفة على الافاريز المستطيلة ويعرفه رواده بطعامه وشرابه وباعة الفستق والجمبرى والكفتة المرشوقة فى أسياخها الطويلة والطعمية وكل السلع الخفيفة كالعصى والمناديل والجوارب والأبسطة المعروضة على أكتاف باعتها والسبح والمباسم ومصنوعات خان الخليلى والحمزاوى. وفى خلف الباريزيانا كان يقع بار الجلوب بموسيقاه الوترية الطروبة وعازفاتها الأجنبيات الممشوقات فى أثوابهن الزرقاء، وابنة صاحبة المتنزه الجميلة التى أفسلت بحبائلها الكثير من أولاد الذوات، ذلك البار الذى تحول بعد ذلك إلى ملهى (البترين)، وكان ينافس ملاهى الأوبرج وحلمية بالاس والإسكرابيه. وفى الطابق العلوى منه كانت صالة البلياردو الطويلة العريضة المنثور فيها تلك الموائد الخضراء الأنيقة، التى لا تمثل أكرها البيضاء الرواح والذهاب تحت غمز العصى الطويلة المتكأة على أصابع ماسكيها.