فى الجزء الثانى من حواره المطول مع «الشروق» كشف المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، عن أسباب مساندته للمستشار نبيل ميرهم، رئيس المجلس السابق، فى أزمة تعيينه خلفا للمستشار السيد نوفل، ثم معارضته سياسته فى إدارة المجلس، كما يكشف تفاصيل صدامه مع كبار القضاة بسبب رغبته فى إدخال نظام جديد للانتداب فى الجهات الحكومية، ويتحدث لأول مرة عن المخالفات القانونية والإدارية فى إنشاء مبنى المجلس الجديد والتى كلفت خزينة الدولة 30 مليون جنيه إضافية. وحذر الجمل الذى ترأس مجلس الدولة بين عامى 1990 و1993 من تنامى تيار داخل مجلس الدولة يناوئ صعود القضاة الأقباط إلى المناصب العليا بالمحاكم، خصوصا أن كبار القضاة الأقباط فى المجلس أعضاء بالمجلس الملى العام، وعلى رأسهم ميرهم وإدوارد غالب سيفين، رئيس الدائرة الثانية بالمحكمة الإدارية العليا. سألناه عن السمات الأساسية للسياسة التى كان يتبعها خلال رئاسته المجلس، قال: لم أكن أحيل المخالفين للتفتيش أو التأديب أو غير ذلك، كنت أكتفى بالتحذير والتنبيه تلافيا للصدام مع المعارضين لسياساتى، فعلى سبيل المثال شهد عهدى ظهور عدد من القضاة المليونيرات بلغ عددهم 150 قاضيا معظمهم عائدون من فترات إعارة طويلة، ويشهد على ذلك إقرارات الذمة المالية الخاصة بهم، بالإضافة إلى ذلك ظهر فى عهدى أول مستشار يخالف لائحة المجلس الخاصة بالانتداب، وكان أحد كبار قضاة المجلس ومنتدبا فى 6 جهات منها رئاسة الجمهورية، فاكتفيت بالتنبيه عليه وتحذيره من إهمال واجباته القضائية فى ظل انشغاله بأعماله فى الخارج، فوعدنى بالامتثال للوائح لكنه لم ينفذ، وهذا المستشار نفسه أصدر طوال عام كامل حكمين فقط أحدهما انقضاء الدعوى بانتهاء الخصومة. وأضاف الجمل: شهد عهدى واقعة غير مسبوقة تتمثل بقيامى بفصل 3 قضاة مرتشين ضبطتهم أجهزة الرقابة الإدارية، ووجدت النائب العام يتصل بى ويخبرنى بأسمائهم وبنتيجة التحقيقات معهم، فقررت فصلهم على الفور رغم اعتراض بعض أعضاء المجلس الخاص وتمسكهم بعلاج الأمر داخليا لما وصفوه ب«حماية سمعة مجلس الدولة» فرددت عليهم بأن بقاء مثل هؤلاء إهدار لما حققه جميع القضاة الشرفاء فى تاريخ مجلس الدولة «مش معقول أسهر أدرس قضايا واشتغل 40 سنة وفى الآخر ييجى واحد ويهدر سمعتنا جميعا». وانتقل الجمل ليتحدث عن انتداب قضاة مجلس الدولة فى الجهات الحكومية المختلفة، حيث وصفه بصورته الحالية ب«المصيبة» لأن عدد قضاة المجلس قليل جدا بالنسبة لعدد القضايا المنظورة وبالتالى فالوقت الضائع يقضيه القضاة فى الوزارات والهيئات بدلا من دراسة القضايا، بالإضافة إلى أن الانتداب يفتح الباب لإفساد القضاة ويخلق علاقات دائمة بينهم وبين الوزراء وكبار رجال الدولة وهو ما يجب أن يكون قضاة مجلس الدولة بمعزل تام عنه، لأن جميع القضايا المنظورة أمامهم يكون الوزراء خصوما فيها. وأوضح الجمل أنه كان يريد إدخال تعديل جذرى على نظام الانتداب فى المجلس يتمثل فى أن يتم انتداب مفوض للدولة لكل وزير يكون تابعا خلال عمله فى الوزارة أو الهيئة لمجلس الدولة، ويحصل على راتبه من خزانة المجلس مثل أى قاض آخر ويستخدم فى تحركاته سيارات المجلس، وإذا استفسر منه الوزير أو رئيس الهيئة عن قانونية أمر ما يفتيه ويصبح الوزير مسئولا سياسيا عن قراره، فإذا حدث تعارض بينهما يعود الوزير للجمعية العمومية للفتوى فإما أن ينفذ الفتوى حرفيا وإما أن يصبح مسئولا سياسيا عن قراره ويحاسب عليه أمام مجلس الشعب. وأشار الجمل إلى أن كبار القضاة فى عهده ثاروا على هذا الاقتراح وبرروا ذلك بحاجة القضاة الماسة للمكافآت التى تمنحهم إياها الجهات الحكومية فى ظل ضعف رواتب القضاة. أما الإعارة للدول الخليجية فيرى الجمل أنها أكثر خطورة من الانتداب على حال قضاة مجلس الدولة: الرواتب الضعيفة لقضاة المجلس لا تتناسب مع الجهد المبذول وهذا يدفعهم للبحث عن طفرة اقتصادية فى دول الخليج التى تحتاج القضاة المصريين للعمل فى إدارات الفتوى بها وإعداد التشريعات والقوانين هناك، وللأسف كانت الملاحظة المهمة على معظم القضاة العائدين من الإعارة أنهم يفقدون حسهم القانونى وثقافتهم التى خرجوا بها من مصر نتيجة عدم وجود مؤسسات قضائية مستقلة تماما فى هذه الدول، كما أن بعض القضاة كانوا يشكون من التدخل المستمر من الدولة فى أحكامهم وصياغة التشريعات والقوانين، مما أدى بهم إلى حالة من الفتور فتحولوا من قضاة إلى موظفين. واستطرد الجمل: هذا الأمر لا ينطبق بالطبع على جميع القضاة العائدين من الإعارة، بل على معظمهم، خصوصا أن العهود السابقة كانت تسمح باستمرار فترة الإعارة لمدد طويلة وصلت إلى 15 سنة فى بعض الأحيان، بالمخالفة للوائح مجلس الدولة، مع الوضع فى الاعتبار أن هناك عيبا آخر فى نظام إعارة القضاة وهو أن القاضى المعار يكتسب جميع حقوق القاضى الموجود فى مصر من حيث الترقيات، وبالتالى كان بعض القضاة يسافرون وهم بدرجة مستشار مساعد ويعودون بدرجة نائب رئيس مجلس الدولة، ويصبحون رؤساء دوائر فى القضاء الإدارى أو الإدارية العليا بدون أى خبرة سابقة. ولفت الجمل إلى أن زيادة عدد القضاة المعارين أدى إلى تقسيم المجلس بين فريقين كان يصطلح على تسمية أحدهما ب«المليونيرات» والآخر ب«الشغيلة» مما أدى فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات إلى تفاوت كبير فى مستويات القضاة الاقتصادية وضعف فى البنية القضائية للمجلس، حيث أوكلت أعمال صعبة مثل صياغة القوانين والتشريعات إلى قضاة غير أكفاء. وقال الجمل إن هذا المشهد دفعه لوضع قواعد صارمة لتعيين الخريجين فى مجلس الدولة، حيث رفض تماما فكرة المسابقات وتخصيص أماكن لأبناء المستشارين، فقرر تعيين 175 مندوبا مساعدا من أوائل خريجى كليات الحقوق والشريعة والقانون، الحاصلين على تقدير جيد جدا، ودعوت من خلفنى فى رئاسة مجلس الدولة إلى إتباع نفس الأسلوب بهدف زيادة عدد قضاة القاعدة الأكفاء القادرين على مساعدة كبار القضاة فى أعمالهم «تربينا فى مجلس الدولة على الإبداع وتحمل المسئولية منذ الصغر، فقد التحقت بالمجلس وأنا الأول على دفعتى، ووضعت فى الثانية والعشرين من عمرى قانون الرقابة على المصنفات الفنية المطبق حتى الآن، ولم يدخل عليه أى تغيير منذ ذلك التاريخ». وأكد الجمل أنه شارك بشكل غير مباشر فى حل أزمة تولى المستشار نبيل ميرهم رئاسة المجلس العام الماضى، عقب الوفاة المفاجئة للمستشار السيد نوفل فى فرنسا، فقال: اتصل بى ميرهم يشكو لى تخطى أعضاء المجلس الخاص «أقدم 6 نواب للرئيس» له فى الترشح لرئاسة المجلس، واعتبر ذلك إخلالا بالأعراف القضائية الراسخة لا لشىء إلاّ لأنه يعانى من ضعف شديد فى بصره، ولم يمنعه هذا الضعف الذى أصابه فى أثناء خدمته فى المجلس من مزاولة عمله بكفاءة فى قسمى الفتوى والتشريع. يضيف: وقفت خلف ميرهم بهدف واحد فقط هو حماية استقلال مجلس الدولة وقواعده الراسخة، وكتبت عدة مقالات حول هذا الموضوع مؤيدا حقه فى الرئاسة، وتلقيت بعدها اتصالا هاتفيا من د. مفيد شهاب، وزير الدولة للشئون القانونية والبرلمانية، وسألنى عن طريقة حل الأزمة، فقلت له إن احترام الأقدمية جزء من احترام استقلال القضاء، وميرهم سيدير المجلس بعقله لا بعينه ومن الممكن أن يحضر جلسات المداولة أيضا بدون مشكلات كرئيس للمحكمة الإدارية العليا، وبعد أيام صدر ترشيح الرئيس باسم ميرهم واحترمت الجمعية العمومية للمستشارين ومن قبلهم المجلس الخاص الأقدمية ووافقوا عليه رئيسا للمجلس، لكنى لم أوافق أبدا على تنازله عن رئاسة المحكمة الإدارية العليا لأن هذا باب للطعن على حجية أحكام الدائرة الأولى. وقال الجمل إنه تلقى عدة اتصالات هاتفية من ميرهم خلال العام القضائى يشكو له من ردود فعل القضاة الغاضبة نحو ما يقوم به من أفعال، مثل إحالة بعض كبار القضاة للتفتيش، وهو ما يعتبره الجمل سوء تقدير من ميرهم «لم يراع أن هناك رأيا عاما فى المجلس ضده، واتخذ قرارات كان من شأنها اتساع الفجوة بينه وبين الآخرين رغم أنه كان يهدف للصالح العام، فهو لم يكن سياسيا فى إدارته ولم يكن حريصا فى معاركه». وعن حال قضاء ومنشآت مجلس الدولة عند توليه المسئولية عام 1990، قال: كانت ماكينة الكتابة قديمة جدا عمرها 45 عاما أى منذ إنشاء المجلس، ولم تكن هناك أى اعتمادات مالية ولا أوراق أو ملفات للقضايا، وكانت جميع دوائر المحكمة الإدارية العليا والقضاء الإدارى بالقاهرة تنعقد فى قاعة وحيدة ملحقة بقصر الأميرة فايقة الذى كان مقرا للمجلس آنذاك ويقع حاليا خلف المقر الحالى، بينما كان قسم التشريع فى حى المهندسين، وإدارات الفتوى بمجمع التحرير، وكان بدروم القصر يضم ملفات القضايا القديمة ومسكونة بالثعابين والزواحف حتى كان الموظفون يأتون ب«الرفاعية» لإخراجها. وأضاف: لم أكن راضيا عن هذا الوضع المزرى فمارست كل سبل الضغط على د. عاطف صدقى، رئيس مجلس الوزراء آنذاك، ووافق أخيرا على تخصيص أول اعتماد مالى للمجلس فى تاريخه وكان بمبلغ مليونى جنيه، فشكلت لجنة من المستشارين برئاسة الأمين العام المستشار يحيى عبدالمجيد، محافظ الشرقية حاليا، وتم تحديد أوجه الصرف لتطوير المجلس، فاشترينا ماكينات كتابة كهربائية حديثة، وأثاث جديد للمكاتب، وأجهزة فاكس ليخرج المجلس للعالمية، وكميات ضخمة من الأوراق والمطبوعات والملفات، وتم الاتفاق مع وزير الدفاع لإنشاء وحدة ميكروفيلم متكاملة لأرشفة الأحكام والملفات، واستحدثنا وحدة كمبيوتر مركزية لربط أقسام وأجهزة المجلس لأول مرة فى تاريخ الهيئات القضائية. ومن جهة أخرى، اكتشفت أن أحكام وفتاوى المجلس خلال 12 سنة لم يتم تلخيصها أو أرشفتها فى مجموعات الأحكام، فالتقيت بالأستاذ أحمد الخواجة، نقيب المحامين آنذاك، وعقدت معه صفقة مربحة لكلينا، تنص على أن نمنح النقابة جميع الأحكام والفتاوى التى يطلبها المحامون مقابل طباعتها وإعطائنا 700 نسخة من المجموعات الكاملة. وكشف الجمل تفاصيل أزمة إنشاء مبنى المجلس الجديد بالدقى والتى بلغت ذروتها فى عهده باندلاع خلاف شديد بين الحكومة والمجلس بسبب ما يصفه ب«سوء الإدارة والمخالفات القانونية ومحاولة البعض الانتفاع ماديا من المشروع»، فقال إن حجر الأساس مبنى المجلس الجديد تم وضعه قبل أن يتولى الرئاسة ب14 عاما كاملة، وأهمل المشروع تماما وظلت الشركة المنفذة تنصب معداتها الثقيلة دون إنجاز أعمال تذكر، ففوجئ بأن التعاقد الأساسى للمشروع تم بالأمر المباشر مقابل 7 ملايين جنيه، بإشراف وتصميم شركة المساكن الشعبية الحكومية، على أن يكون المنى عبارة عن قاعات وعنابر للموظفين وجراج يتسع ل150 سيارة وأن يكون التكييف فى الحجرات الرئيسية فقط. وأضاف الجمل: اتضح فيما بعد أن الشركة تسلمت 3 جوابات باسم مجلس الدولة خلال عقد الثمانينيات لتعديل شروط التعاقد، ليتسع المبنى إلى قاعات واسعة وجراج بقدرة 350 سيارة وتم التعاقد مع شركة إيطالية شهيرة لتكييف المبنى مركزيا، فتم تعديل المقابل المالى من 7 ملايين إلى 37 مليونا و500 ألف جنيه، فخاطبت د. كمال الجنزورى لتوفير المبلغ المطلوب فرد علىّ بخطاب مقتضب يتضمن 3 أسئلة: من الذى أمر بزيادة الأعمال وكيف تم التعاقد ومن المسئول؟ يواصل الجمل: أمام هذه الأسئلة المركزة لم أجد بدا من تشكيل لجنة تحقيق لكشف المخالفات التى ارتكبت فى عهود سابقة، واستدعيت ثلاثة من رؤساء المجلس السابقين وعرضت عليهم الخطاب وسألتهم عن المسئول عن هذه الزيادة الضخمة فى الأعمال، فاتضح أن هذه الخطابات كانت ترسل بناء على توجيهات شفهية غير موثقة، وشن بعض كبار القضاة حملة ضدى لإغلاق الملف خوفا من أن تطولهم المساءلة، وأطلقوا شائعات مفادها أننى أهين رؤساء المجلس السابقين وأسىء لسمعتهم. وأوضح الجمل أن نقص المستندات أعجزه عن تحديد المسئول الرئيسى عن زيادة المصاريف دون مبرر، لكن الإلحاح على الحكومة أدى لإنجاز المبنى بعد إحالته للتقاعد بعام وبضعة شهور، وقال: عملية البناء شابتها مخالفات عديدة منها فساد إجراءات التقاعد وإرسائها بالأمر المباشر دون مناقصة حرة نزيهة، ثم محاولة بعض الشركات العاملة من الباطن التربح بزيادة المصاريف، وللعلم فبعض القضاة العائدين من الإعارة آنذاك كانوا مساهمين أساسيين فى هذه الشركات. وأشاد الجمل بدور المهندس حسب الله الكفراوى، وزير الإسكان آنذاك، فى إعطائه أوامر صريحة للشركات الحكومية بترخيص أسعار مواد البناء والعمليات التى قامت بها فى مجلس الدولة، سواء فى إنشاء المبنى الجديد، أو ترميم قاعة المحكمة الإدارية العليا بالمبنى القديم.