كشف المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق العديد من الأسرار عن علاقته بالرئيس مبارك ولقائه الوحيد بالرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز، وصداماته المتكررة بالحكومة، ما أدى إلى إقالته للتقاعد. وقال الجمل فى حوار مطول مع «الشروق» نشر الجزء الأول منه اليوم: إن الدكتور صدقى، رئيس الوزراء الأسبق تدخل فى عمله وقام بالتحايل على مجلس الدولة لتمرير العديد من القوانين غير الدستورية. وأضاف الجمل الذى شغل منصب رئيس مجلس الدولة طيلة 3 سنوات انتهت عام 1993: إن الرئيس مبارك يتصل بى هاتفيا بصفة دورية للاستفسار عن أمور قانونية ودستورية خاصة بتنفيذ الأحكام والقوانين، وأنه استفسر منى عن طريقة تنفيذ الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا عام 1990 بعدم دستورية قوانين الانتخابات، فأوضحت له أن الطريقة الوحيدة هى إخطار مجلس الشعب بها باعتباره سيد قراره، ثم إصدار قرار بحل المجلس وإعادة الانتخابات فى جميع الدوائر، وهذا ما حدث بالفعل. وأوضح الجمل أن مبارك يتميز بحب الاطلاع والرغبة فى الاستفسار من ذوى الشأن والاختصاص، حيث كان يستشير رؤساء الهيئات القضائية والوزيرين فاروق سيف النصر، وزير العدل، وكمال الشاذلى، وزير شئون مجلسى الشعب والشورى، ود.فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، لكن بعض المنتفعين فى الحزب الحاكم والدولة تسببوا فى سوء علاقة الرئيس بالمخلصين فى النصح له، وكانوا يتفقون فيما بينهم على الرد عليه بإجابات موحدة فى محاولة لتوجيه قراره لما يخدم مصالحهم الشخصية. وقال الجمل إنه أصر أثناء رئاسته للمجلس على عدم تعيين أى من أبناء المستشارين وقصر التعيين على أوائل الكليات، وأوضح أنه قال فى إحدى جلسات المجلس الخاص «لن أعين نجل حسنى مبارك إذا لم يكن من الأوائل» ففوجئ بعد أيام بمبارك يتصل به للاستفسار عن أمر قانونى ثم ختم المحادثة بعبارة «ماليش أولاد قانونيين يا سى محمد»، واستطرد الجمل «أن هناك من نقل للرئيس ما دار فى الاجتماع» وأضاف الجمل أن شائعات ترددت عن مد سن تقاعد القضاة قبل إحالته للتقاعد لكنه لم يعرها اهتماما لعدم تعود القضاة عموما على الخدمة بعد سن الستين، لكنه فوجئ عقب تكريم الرئيس له ومنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى بصدور قرار جمهورى بقانون يمد سن تقاعد القضاة إلى 64 عاما. وقص الجمل أحداث ذلك اليوم قائلا: اتصل بى سيف النصر وأخبرنى أن الرئيس يريد مقابلتى مع أعضاء الهيئات القضائية الأخرى قبل إحالتى للتقاعد بنحو أسبوع، ومر علىّ بسيارته الخاصة فى مجلس الدولة واتجهنا إلى مطار ألماظة الحربى، وهناك لاحظت وجود عمرو موسى، وزير الخارجية، ثم حضر الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز، وزير خارجية إسرائيل آنذاك، وعلمت فيما بعد أننا سنستقل نحن الأربعة طائرة رئاسية إلى قصر رأس التين بالإسكندرية. ويواصل: فوجئت ببيريز يقترب منى ليبدأ فى مبادلتى أطراف الحديث وكأنه يعرف مسبقا أننى رئيس مجلس الدولة المصرى، وكان يقول لى «إن سنك صغيرة (60 سنة) ومن الغريب أن يحيلوك إلى التقاعد، فرؤساء المحاكم فى أوروبا يعملون حتى سن الثمانين»، وعندما استقللنا الطائرة كان حظى أن يجلس بيريز بجانبى ليواصل الحديث عن السن والظلم الذى يتعرض له قضاة مصر من التقاعد مبكرا، ثم تطرقنا لمسألة السلام الإرهاب الإسرائيلى وأخذ يشدد كعادته على رغبة إسرائيل فى تحقيق سلام شامل. ويكمل الجمل قصته: بعد اجتماع الرئيس مبارك مع بيريز دعانا د.زكريا عزمى، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، للتكريم الذى حضره سيف النصر ود.عاطف صدقى، رئيس الوزراء آنذاك، وكان سيف النصر يحمل ظرفا متوسط الحجم لفت انتباهى بشدة أثناء تكريم الرئيس لى، وبعدها دعانى عمرو موسى بمفردى على الغذاء مع بيريز وقال لى «لا تفوت هذه الفرصة.. الرجل يريد الاستفسار منك عن بعض المسائل القانونية الخاصة باتفاقية السلام» لكن سيف النصر صمم على اصطحابى لحضور حفل غذاء يقيمه نادى قضاة الإسكندرية على شرف القضاة المتقاعدين، وبعد يومين فوجئت أن الرئيس أصدر فى نفس اليوم قرار مد سن تقاعد القضاة بعد أن أصبحت على المعاش. وتطرق الجمل للحديث عن طريقة إدارة القضاء فى مصر فى عهد رئاسته لمجلس الدولة، فأوضح أن الرئيس مبارك لم يكن يحضر اجتماعات المجلس الأعلى للهيئات القضائية وكان ينوب عنه وزير العدل فاروق سيف النصر، فكان يطلب من المستشار ماهر عبدالواحد، أمين عام المجلس آنذاك والنائب العام ورئيس المحكمة الدستورية فيما بعد، أن يثبت فى محاضر الاجتماعات اعتراضه على تشكيل المجلس بهذه الطريقة وأنه غير دستورى، لأن الوزير يجب أن يحضر بصفته التنفيذية فقط ولا يتدخل فى شئون القضاء حرصا على استقلاله، بينما من المفروض أن يحضر الرئيس هذه الاجتماعات بصفته رئيسا أعلى للسلطة القضائية وحكما بين السلطات، ولا ينوب عنه أحد. وقال الجمل إن المجلس الأعلى فى تلك الفترة كان منوطا به إصدار وتعديل القوانين الخاصة بالسلطة القضائية وهيئاتها المختلفة، لكنه لم يتمكن من تمرير تعديلات جوهرية أراد إدخالها على قانون مجلس الدولة، أهمها حظر نظر دعاوى الموظفين المكررة والتى تقوم على مبدأ واحد خاصة فى دوائر البدلات ورصيد الإجازات والمنازعات الوظيفية بالقضاء الإدارى، لمحاولة تخفيف الأعباء على قضاة مجلس الدولة وخفض عدد القضايا بنسبة لا تقل عن النصف، لكن الحكومة رفضت إقرار هذا التعديل واستمرت فى مطالبة كل موظف بإحضار الحكم الخاص به لتنفيذه وعدم الاستجابة للأحكام المشابهة أو المبادئ، مما يفتح الباب فى رأيه لمزيد من الفساد الإدارى على مستوى صغار الموظفين، وتكتظ خزينة الحكومة بالرسوم القضائية التى يدفعها الموظفون بحثا عن حقوقهم المسلوبة، ولا يحصلون عليها إلا بعد سنوات طويلة «العدالة البطيئة ظلم». وكشف الجمل تفاصيل خلاف حاد نشب بين سيف النصر والمستشار كمال أنور، رئيس مجلس القضاء الأعلى، قبل شهور معدودة من إحالته مع أنور للتقاعد، فقال: كان أنور يطلب من وزير العدل زيادة مخصصات القضاة واعتمادات المحاكم والدرجات القضائية، وكان سيف النصر يماطل فى ذلك، فاستغل أنور دعوتنا إلى حفل أقامه الرئيس مبارك فى دار الأوبرا على شرف الرئيس السودانى عمر البشير، وأراد أن يوجه له الشكوى مباشرة فلم يستجب لتحفظى على هذا التصرف واقترب من الصالون الرئاسى الذى يجتمع فيه مبارك مع البشير فاعترضه الحرس الجمهورى، فأخذ يصيح «أنا رئيس السلطة القضائية عايز أقابل الرئيس» فحضر سيف النصر وعزمى على الفور لإنهاء الأزمة وطلبا منى تهدئته، ثم اتهمنى سيف النصر فيما بعد بأننى كنت وراء ثورة أنور، وبعد إحالتنا للتقاعد علمت أن الحادث تم تضخيمه واستخدامه لاستثنائى مع أنور من قانون مد السن. وانتقل الجمل للحديث عن علاقته بأجهزة الدولة المختلفة وعلى رأسها رئاسة الحكومة، حيث وجه انتقادات حادة للدكتور عاطف صدقى، رئيس الوزراء، واتهمه بمحاولة التدخل فى شئون مجلس الدولة وفرض وصايته على قضاته، وقال: كان صدقى عضوا فى مجلس الدولة بدرجة مستشار مساعد وقت تعيينى عام 1954، ثم أرسله المستشار عبدالرزاق السنهورى، ثانى رئيس للمجلس، فى بعثة إلى فرنسا فعاد بدرجة الدكتوراه فى المالية العامة واختار السلك الجامعى بدلا من القضاء. وأضاف: أراد صدقى تمرير مشروع قانون قطاع الأعمال العام الذى أعده د.عاطف عبيد، رئيس مجلس الوزراء فيما بعد، فاتصل بى وطلب منى أن أرأس قسم التشريع بصفة استثنائية وأتولى عملية مراجعة القانون من نواحى الدستورية والصياغة وقانونية البنود، فكلفت أحد المستشارين النابهين بإعداد تقرير مبدئى عن القانون، ثم أعددت ورشة عمل متكاملة لدراسة القانون ضمت المستشار نبيل ميرهم، رئيس مجلس الدولة فيما بعد، وانتهت جميع التقارير إلى أن القانون مخالف للدستور لعدة أسباب أهمها: أن الدستور المصرى خلا من أى إشارة لما يسمى ب«قطاع الأعمال العام» ونص فقط على وجود قطاع عام وآخر خاص، كما كان القانون تنظيميا يستبدل المسميات القانونية بأخرى منقولة حرفيا من قوانين غربية مثل استبدال لفظ المؤسسة بالشركة القابضة. وانتهت اللجنة إلى أن القانون يرمى لخصخصة تدريجية لشركات القطاع العام، واستحداث منصب وزارى لما يسمى ب«قطاع الأعمال العام» رغم أن القانون يحتم على رئيس الوزراء الاحتفاظ بهذه الحقيبة على اعتبار أن هذا القطاع سيشمل أعمالا خاصة بوزارات مختلفة، كما أن القانون منح الحكومة سلطات واسعة لبيع شركات القطاع العام دون ضابط أو رابط، فتم الاتفاق على رفض المشروع تماما. وواصل الجمل: أرسلت لصدقى وعبيد خطابا بالرفض وأسبابه، ثم أرسلت نفس الخطاب للرئيس مبارك بهدف تحذيره من تمرير هذا القانون، ففوجئت بعدها بصدقى يتصل بى ويلومنى بشدة على إرسال الخطاب لمبارك وقال «أنا رئيس الوزراء وسأعرض على الرئيس كل شىء.. وهذا التصرف غير مقبول منك فأنت تخطيت حدودك.. وهذا القانون دستورى وكلامك عنه غير صحيح» فرددت عليه بأننى عبرت عن وجهة نظر مجلس الدولة كاملا ووضعت سماعة الهاتف، وبعدها بفترة التقيت صدقى أمام لفيف من رجال الدولة على هامش حفل فى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر فوجدته يصيح فىّ قائلا «أنت وكمال أنور هتجننونى». وأشار الجمل إلى أن «الوزارات المختلفة كانت ترسل إلى قسم التشريع بمجلس الدولة مشروعات القوانين المثيرة للجدل، ثم تأخذ التعديلات وتلقيها فى سلة المهملات، ويظهر القانون تحت قبة مجلس الشعب ممهورا بعبارة «بناء على ما ارتآه مجلس الدولة» مما سمح بتمرير العديد من القوانين المخالفة للدستور باسم قسم التشريع. سألناه عن رأيه فى أزمة تعيين المستشار فاروق سلطان رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، وعن سبب عدم تعيين أى قاضٍ من مجلس الدولة فى هذا المنصب وتوالى قضاة عاديين على رئاسة الدستورية، فأجاب قائلا: الحكومة تعرف جيدا أن من يحيل مواد القوانين والدستور للفصل فيها فى المحكمة الدستورية هم قضاة مجلس الدولة، لأن جميع القضايا المنظورة أمامهم إدارية، فاعتبرتهم الدولة خطرا على تنفيذ سياساتها فى المحكمة الدستورية العليا، رغم أنهم أكثر علما بالقوانين والدستور من نظرائهم فى القضاء العادى نتيجة ممارساتهم اليومية. وعاد الجمل ليقص الأسباب الحقيقية لإنشاء المحكمة الدستورية العليا مرجعا ذلك إلى مطلع عهد الرئيس جمال عبدالناصر فقال: فى عام 1953 لم تكن بمجلس الدولة محكمة إدارية عليا فكان السنهورى يستعيض عنها بإقامة دائرة من أقدم أعضاء دوائر القضاء الإدارى لإصدار أحكام لا يمكن الطعن فيها، فأصدر من هذه الدائرة حكما يقضى بأن المحاكم تراقب دستورية القوانين وبأن أى قاضٍ فى مصر له سلطة رفض تطبيق القانون الذى يراه غير دستوري. استاءت السلطة من هذا الحكم الذى يهدد استقرار القوانين التى تصدرها بمعزل عن السلطة التشريعية، فأرادت السيطرة على الوضع بإنشاء محكمة أسموها فى البداية «المحكمة العليا» هى وحدها المنوطة بنظر دستورية القوانين واللوائح، وعينوا فيها القضاة بقرارات مؤقتة تجدد سنة بسنة حسب أهواء السلطة التنفيذية، وعندما تسلم الرئيس أنور السادات السلطة أراد إدخال بعض الإصلاحات على المحاكم فحول هذه المحكمة العليا إلى محكمة دستورية. ويواصل الجمل: كنت فى هذه الفترة منتدبا كأمين للجنة التشريعية بمجلس الشعب ومستشارا قانونيا للمجلس، فاقترحت أن يكون تشكيل المحكمة الدستورية غير خاص ومتغير، بأن يتم تحديد لجنة عليا لإدارة المحكمة بعضوية رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة النقض وأقدم أعضاء الهيئتين، مع إقامة هيئة دائمة للمفوضين فى المحكمة لإعداد تقارير بالقضايا على شاكلة هيئة المفوضين بمجلس الدولة، وذلك بهدف الفصل الكامل بين السلطة التنفيذية وإدارة المحكمة، إلاّ أن عددا من أعضاء الاتحاد الاشتراكى آنذاك رفضوا هذا الاقتراح، وقالوا إن الأمور ستخرج عن نطاق السيطرة. ولفت الجمل إلى أن سلطة المحكمة الدستورية المصرية منقوصة لأن رقابتها على القوانين بعدية وليست مسبقة، على عكس المجلس الدستورى الفرنسى الذى يتكون من قضاة خليط بين النقض ومجلس الدولة هناك ويكون لهم سلطة الرقابة المسبقة على القوانين وتلتزم الحكومة دائما بتنفيذ قراراتهم، منتقدا بشدة أسلوب تعيين القضاة حاليا فى المحكمة الدستورية والذى نتج عنه «تعيين قضاة وقاضيات لم يكتبوا من قبل حكما واحدا أو تقريرا فى قضية».