من أى روح قدسية برأ الخالق هذا الصوت؟، وكيف يا رب تُنزل إلى الأرض قطعة من نعيم الجنة؟، ولم اخترت أرض مصر لتحظى بهذا التكريم؟، وأنى لأوتار هذه الطفلة الصغيرة أن تتحمل إرسال صوت الخلود السرمدى إلى بنى البشر؟... لكن شدو أم كلثوم على الأرض شغل أهل السماء عن إجابة أسئلتهم، وبينما الناس يمدحون الصوت الحسن بأنه «ملائكى»، فإن الملأ الأعلى يمدحون المسبحين من الملائكة بأن صوتهم «كلثومى». هيثم أبوزيد تربعت أم كلثوم على عرش الطرب خمسين عاما، وظلت فى مكانتها إلى يومنا هذا رغم مرور نحو أربعة عقود على رحيلها، إذ إن أعظم المطربين والمطربات لا يطاولون ذيل ثوبها، ولا يحلمون بغير البقاء عند موطئ قدميها، وهم جميعا يتنافسون فى ساحة عند سفح جبل استراحت هى على قمته. لا مبالغة فى وصفنا، لكنها الحقيقة، يدركها من سيلقى السمع وهو شهيد، ومن سيبحث عن التراث الكامل لسيدة الطرب، ومن يعلم أن استماع أم كلثوم علم قائم بذاته، ومن سيكتشف أن التسجيلات المتلفزة التى تبثها الفضائيات لا تمثل واحدا على الألف من الحقيقة الكلثومية الكبرى. ذات ليلة، وعبر الهاتف، أتانى صوت الحبر الكلثومى الكبير بشير عياد، الشاعر والناقد الذى يفنى عمره وفكره وماله عند أم كلثوم، باحثا فى تاريخها، ومتعبدا فى محرابها، ليشكو قائلا: كلما ظننت أننى أحطت بها، وأدركت عمق بحرها، وسبحت فى موجها العاتى، إذا بى مازلت على شاطئها، لم تبتل أطرافى من ساحلها المترامى... هذا قول رجل أنفق خمسة عشر عاما من عمره يكتب أهم سفر وأوثق كتاب عن كوكب الغناء، ولم ينته بعد، هذا قول أحد السائرين إليها، المأسورين بصوتها، العارفين لفضلها، ثم يأتينى غِر لم يعرف السيدة إلا من خلال تسجيلات تجارية ل«أنت عمري» و«ألف ليلة وليلة» ليتحدث عن أم كلثوم. محبون جاهلون، هؤلاء الذين يتلقون أم كلثوم من الحفلات القليلة المتلفزة فى الفضائيات، أو تسجيلات شركة صوت القاهرة التى خضعت لمونتاج صفيق، وقص ولصق لا يراعى إلا مدة الشريط، ثم نقل هذا المونتاج كما هو إلى الاسطوانات المدمجة التى لن تشكو من زمن يزيد على 20 أو 30 دقيقة، وإنما تشكو من العدوان على تراث غال. محبون جاهلون، هؤلاء الذين يمثل لهم صوت أم كلثوم مجرد ذكريات يحنون إليها، عندما كانت تجتمع الأسرة كلها فى «المندرة» بعد العصر يستمعون للست وهم يحتسون أكواب الشاى، أو هؤلاء الذين تثير كلمات أغانيها لديهم ذكريات حب لم يكتمل، أو لوعة فراق حبيب طال انتظاره، أو أمجاد معارك وطنية افتقدناها فى عصر الاضمحلال الذى عاشته مصر أربعين عاما، وكل هذه أسباب هامشية، وطلاء رقيق على جدران صرح شاهق أصله ثابت وفرعه فى السماء. أول الطريق إلى إدراك الحقيقة الكلثومية أن تستمع لسيدة الغناء ابتغاء الطرب، وأن تجعل من «السلطنة» هدفا، وأن تستفيق إلى حقيقة بديهية، وهى أن «المطرب» وظيفته أن يطرب، وأنه ما لم يطرب، لا يستحق وصف «مطرب»، وأن الاستمتاع بجماليات الغناء، والبراعة الفائقة فى أداء اللحن، والإضافات الحلوة، والتصرفات الباهرة، والارتجالات الخطيرة، تحتاج إلى استماع يقظ، واع، منتبه، بل قد تحتاج إلى من يأخذ بيدك إليها، ومن يرشدك إلى طريقها. «وأنا اللى أخصلت فى ودى، وفضلت طول العمر أمين، ياخد الزمان منى ويدى، وقلبك أنت عليا ضنين» مقطع من منولوج «غلبت أصالح» كتبه رامى، ولحنه السنباطى، لكن أم كلثوم فى أدائها للفظة «ضنين» صنعت ما لا يقدر عليه بشر، ولا يستطيعه بين العالمين إنسان، فقد أرادت أن تصل آخر العبارة بأولها، فأمسكت بلفظة «ضنين» ومدت ياءها مدا طويلا تهز فيه أوتارها كأنها آلة موسيقية لا حنجرة بشرية، مع تصاعد نغمى ينتهى بالتقاء نون «بضنين» مع «وأنا اللى».. لينفجر الجمهور مقاطعا بالتصفيق الحاد وصيحات الاستحسان المتعجب لهذا السحر الحلال. «وعيشنا طيف خيال، فنل حظك منه قبل فوت الشباب»، مقطع من «رباعيات الخيام»، قررت فيه زعيمة الغناء أن تشرح بصوتها معنى لفظة «طيف»، فبعدما كان صوتها عريضا جبارا، إذا به يرق ويشف مع لفظة «طيف» كأنها تأتى المستمعين من عالم آخر، خارج حدود الإدراك المادى، ليضج الجمهور مقاطعا بصرخات الإعجاب والتصفيق، لأداء معجز، وغناء لا يمكن أن يؤديه أحد. «ولما القاك قريب منى، وأقول البعد تاه عنى، أشوف عينك تراعينى، وقلبى من لقاك فرحان»، مقطع من «دليلى احتار»، التى وصلنا منها نحو خمسة وعشرين تسجيلا، تذهب أم كلثوم بعقول جمهورها وهى تؤدى كلمة «فرحان» أداء يصور الفرحة والبهجة والسعادة، فتخرج ألف المد كأنها ضحكة يطلقها مفتون غمرته نشوة لقاء الحبيب، وهذا الاهتزاز الضاحك السريع، هو من الصعوبة والجمال، بما يصل إلى حد التحدى للمطربين والمطربات إلى يوم يبعثون. «محمد صفوة البارى ورحمته، وبغية الله من خلق ومن نسم، بيت من قصيدة نهج البردة، لم يكن يجرؤ السنباطى أن يلحنه كما لحنه، إلا وهو مطمئن إلى القوة الهائلة لصوت من ستؤديه، فقد ارتفع نغميا بألف لفظ الجلالة إلى ما فوق السحاب، مع مد طويل جدا، فكان أداء أم كلثوم له أشبه بنفخ الصور، وكان وقعه على المستمعين هائلا، فمن غير هذه المعجزة يمكنه هذا الأداء الخارق الجبار؟. وعلى ذكر نهج البردة، فقد أدت شادية العرب، بيت شوقى فى نفس القصيدة، «حتى بلغت سماء لا يطار لها، على جناح ولا يسعى على قدم، وأسعدت الجمهور بقفلتها الفخمة المحكمة، لكن كل كلثومى فى العالم، لا ينسى ارتجال كوكب الغناء لهذا البيت فى حفل دمشق عام 1955، حين مكثت نحو ربع الساعة تصول وتجول مع البيت، وتقدم للعرب واحدا من أهم دروس فن الارتجال فى تاريخنا الغنائى كله. «وقف الخلق ينظرون جميعا، كيف أبنى قواعد المجد وحدى»، قصيدة حافظ إبراهيم، وأحد أعظم ألحان السنباطى، تكفينى هنا إشارة إلى أدائها لكلمة «كيف»، حيث وضعت فى لفظة الاستفهام كل معانى الشموخ والفخر والاستعلاء، وكأن مصر تخاطب الدنيا من علٍ. فى نوفمبر عام 1967، سافرت أم كلثوم إلى باريس لإحياء حفلها التاريخى على مسرح الأوليمبيا، بعد مفاوضات صعبة ومحاولات مضنية بذلها مدير المسرح مع السيدة على مدار عامين، كانت أم كلثوم تقترب من السبعين، واعترى صوتها ما يمكننا أن نسميه «الوهن الوقور»، وزاد من حملها حزنها الكبير، إذ لم تمر على الهزيمة إلا أشهر قليلة.. لكن هذه السيدة العجوز، أحيت إحدى أهم الحفلات فى تاريخ مسرح الأوليمبيا، وتلقت أكبر أجر دفعه المسرح لأى فنان فى العالم، وحققت له أكبر دخل فى تاريخه، وانتظمت رحلات جوية لنقل المستمعين العرب من دول أوروبا وبلاد المغرب العربى، واستقبلت بأطول عاصفة من التصفيق فى تاريخ الأوليمبيا، وظلت الصحف الفرنسية أسبوعا تتحدث عن الأسطورة الكلثومية فى مساحات واسعة، ومانشيتات رئيسية، وتبرعت الفلاحة الدقهلاوية بكامل أجرها للمجهود الحربى. حين تقترب ذكرى الرحيل كل عام، يتجدد فى قلبى الحزن على فقدانها، وتمتلئ نفسى بالحسرة على تراثها الضائع، وأتمنى لو أننى كنت عندها، أعيش فى زمانها، وأحضر حفلاتها العظيمة، ثم أجدنى لا أهرب منها إلا إليها، أقلب فى صورها، وأشاهد مقاطع من جنازتها الكبرى، التى لم يحظ بها فنان ولا زعيم سوى جمال عبدالناصر، ولا بأس من حزن أيام، فهى واهبة السعادة والبهجة طوال العام، وإن لم يبق لنا منها إلا التسجيلات، فلا ريب عندى أن محافل استماعها مازالت قائمة فى الملأ الأعلى.