لم يدخل فى تصور أحد أن قضية عادية تتكرر يوميا يمكن أن تثير زوبعة فى كل من الهندوأمريكا وتهدد العلاقات السياسية بين الدولتين. تبدأ القضية بوصول السيدة ديفيانى إلى نيويورك لتلتحق بعملها نائبا للقنصل العام فى القنصلية الهندية، مصطحبة مربية من الهند. فعلت ما يفعله كثير من الدبلوماسيين، وبخاصة المنتمين لدول فى العالم الثالث. فقد عرضت على المربية السفر معها إلى نيويورك بأجر متواضع وبشرط أن توقع على عقد يحدد مبلغ 4200 دولار راتبا شهريا، ليكون متناسبا مع قوانين الأجور فى الولاياتالمتحدة. كل الأطراف كانت راضية عن الاتفاق. فالمربية، كمئات الألوف من إناث جنوب وجنوب شرقى آسيا، عاشت سنوات تحلم بتأشيرة دخول إلى أمريكا وبطاقة سفر مدفوعة. وفى سبيل تحقيق هذا الحلم تستعد للقبول بأى أجر رمزي. والسيدة ديفيانى، كالعشرات من الدبلوماسيات وزوجات الدبلوماسيين، لا تقوى على دفع راتب مربية أمريكية الجنسية. لتفادى ذلك يلجأ أغلبهن إلى التزوير فى الأوراق التى يقدمنها للحكومة الأمريكية للحصول على تأشيرة دخول للمربية الأجنبية. ••• المعتاد فى مثل هذه الحالات هو أن المربية أو الخادمة أو الطاهية، سرعان ما تكتشف أنها مظلومة وتعمل وقتا أطول مما تسمح به قوانين العمل (تعمل مائة وعشر ساعات بينما القانون لا يسمح بأكثر من ثمانى وثلاثين) وتحصل على أجر أقل كثيرا مما تنص عليه قوانين الأجور (تحصل على حوالى أربعمائة وخمسين دولارا بينما القانون يحدد الدخل الأدنى بحوالى أربعة آلاف). المعتاد أيضا أن تجد الخادمات الأجنبيات فى انتظارها فى الولاياتالمتحدة جمعية أهلية تتصل بها من وراء ظهر سيدة البيت، لتشير عليها بضرورة التوجه إلى الشرطة وتقديم شكوى وتكلف محاميا لمساعدتها. وبالفعل، وبناء على مشورة جمعية «أفق آمن» تقدمت المربية بالشكوى وتحركت الشرطة إلى مقر سكن السيدة ديفيانى، ووجهت إليها تهمتى إساءة معاملة المربية والتزوير فى أوراق رسمية، ووضعت الأصفاد فى يديها أمام أطفالها وجيرانها. ••• كان يمكن أن تنتهى القضية عند هذا الحد، لولا أن السيدة ديفيانى اعتقدت أنها تتمتع بحصانة دبلوماسية بصفتها نائب قنصل، ولولا أن العمدة الجديد لمدينة نيويورك بدأ ولايته بأزمة قد تطيح به قبل أن ينعم بوظيفته فجعل من قضية ديفيانى قضية رأى عام، ولولا أن الاستعدادات لانتخابات برلمانية «مصيرية» تجرى على قدم وساق فى الهند، الأمر الذى شجع السياسيين الهنود على اختلاف مشاربهم على الاستفادة من القضية بإثارة المشاعر القومية ضد أمريكا، بعضهم ضغط على الحكومة مطالبا بإلغاء زيارة كان مقررا أن يقوم بها وزير الطاقة الأمريكى وتحقق له ما أراد، ولولا أن متعصبين قوميين شاءوا أن يصنعوا من السيدة ديفيانى «بطلا وطنيا» وضحية لما أطلقوا عليه «النفاق الأمريكى الإمبريالي» حين رفضت التنازل عن حقها فى الحصانة قائلة إن الحصانة حق سيادى للدولة ولا يحق للفرد التصرف فيه. ••• نعم، كان يمكن أن تنتهى القضية باعتقال السيدة ديفيانى ومحاكمتها وحبسها إن استدعى الأمر لولا هذه الظروف المحيطة بها. من ناحية ادعت الهند بحق السيدة ديفيانى فى عدم محاكمتها لتمتعها بامتيازات وحصانات، ومن ناحية أخرى ادعت واشنطن أن أمريكا لا تعترف بحصانة وامتيازات للقناصل المعتمدين لديها. عندئذ لجأت حكومة نيودلهى إلى نقل السيدة ديفيانى إلى بعثة الهند لدى الأممالمتحدة، لتتمتع بمزايا وحصانات الدبلوماسيين المعتمدين لدى المنظمة الدولية، كما دفعت كفالة للإفراج عنها بلغت ربع مليون دولار، ثم استجابت لقرار الخارجية الأمريكية ترحيل المتهمة وعودتها إلى الهند ولكنها من ناحيتها قررت طرد دبلوماسى أمريكى يحمل نفس الرتبة التى تحملها السيدة ديفياني. وكانت الأمور قد تطورت بسرعة مذهلة حين أصدرت الخارجية الهندية قرارها بوقف الإعفاءات الضريبية الممنوحة للنادى الاجتماعى والتجارى للسفارة الأمريكية بحجة أن مواطنين أمريكيين عاديين من خارج السفارة يستخدمون امتيازات هى فى الأصل مخصصة للدبلوماسيين. بمعنى آخر اتهمت الهند سفارة أمريكا بتجاوز القوانين الهندية والتواطؤ مع أشخاص غير دبلوماسيين على ارتكاب جريمة التهرب من دفع الضرائب. ••• كان يمكن أن تصاب العلاقات الأمريكيةالهندية بضرر شديد لو لم يتوصل حكماء فى أمريكا إلى اقناع وزارتى الخارجية بضرورة «تخليص» القضية من براثن رأى عام فى كلا البلدين مدفوع لإشعال فتنة دبلوماسية، أو متعطش للإثارة والثأر والانتقام. كانت الأصوات تتعالى فى الهند وترفع شعار «يا هنود اتحدوا لتحصلوا على العدل والحق»، وراحت أحزاب سياسية تدعو والد السيدة ديفيانى أن يقبل الترشيح لمجلس النواب على قوائمها. فجأة توحدت الأمة الهندية كما لم تتوحد من قبل. ••• نعرف، وعرفنا فى مصر على مدى عقود، أن قوى ومصالح سياسية محلية تتدخل أحيانا لإشعال فتن دبلوماسية بين مصر وغيرها من الدول، ربما لأنها تنتظر فائدة من وراء الفتنة، كأن ينشغل الرأى العام لفترة بقضية تبعده عن الاهتمام بقضايا محلية معقدة أو صعبة الحل أو كأن نرضى بالفتنة طرفا ثالثا أو كأن نخدم بها مصالح استثمارية وتجارية معينة. تاريخنا الدبلوماسى شاهد على أن هذه «الفتن» عادت على منظومة الأمن القومى المصرى بعواقب وخيمة ما زالت تكلفتها باهظة يتحملها جيل لا ذنب له. أيامنا المعاصرة شاهدة هى الأخرى على أنه لا يزال فى مصر من يحاول بإصرار إشعال فتنة متواضعة مع هذه الدولة وفتن ملعونة وأشد هولا مع دول أخرى.