لا رغبة للكاتب السياسى تعلو فوق رغبة الاطلاع على تفاصيل عملية صنع القرار السياسى، وبخاصة القرار المتعلق بالسياسة الخارجية، وحبذا لو كان القرار أمريكيا. سمعنا كثيرا وقرأنا عن تعقيدات صنع القرار السياسى فى الولاياتالمتحدة. سمعنا كثيرا وقرأنا عن دور جماعات الضغط وتدخلات الكونجرس وانفعالات الرأى العام. الآن يخرج علينا من يؤكد أن الأمر أبسط كثيرا مما يوحى به وأقل تعقيدا. ••• أقرأ عن الضجة المبكرة التى تسبق نشر كتاب روبرت جيتس وزير الدفاع فى بعض عهدى الرئيسين بوش وأوباما. يصدر الكتاب يوم 14 يناير بعد أن سرب الناشر إلى أجهزة الإعلام مقتطفات من المذكرات التى حملت عنوان «الواجب». لن يحقق الكتاب فى ظنى نجاحا وانتشارا واسعا، لأنه لم يأت على تفاصيل وأسرار عسكرية أو على فضائح أخلاقية ومالية، وستبقى قيمته فى الغالب فى أنه يشرح للأمريكيين والأجانب جانبا مهما من جوانب عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية وأساليب عمل أجهزة الدولة العليا. ويكشف المبالغة فى تضخيم كفاءتها وقدراتها. ••• يقول جيتس عن تجربته كوزير للدفاع مع أجهزة الدولة الأمريكية «رأينا الجانب الأكبر من الكونجرس غير منظم وغير كفء وغير قادر على الوفاء بالتزاماته الدستورية». وفى مكان آخر من المذكرات يصف تصرفات أعضاء الكونجرس «بالأنانية والنفاق ووضع المصلحة الشخصية (بمعنى تجديد انتخابهم) فوق مصلحة البلاد». أما مجلس الأمن القومى فقد رآه جيتس يتدخل فيما لا يجوز التدخل فيه وهو تفاصيل العمليات العسكرية والسياسية، وفى كل صغيرة وكبيرة. ويعترف جيتس بصراحة وشجاعة بأن «البيت الأبيض قد أصبح فى عهد أوباما أكثر مركزية وإحكاما للسيطرة من أى مركزية رأيتها فى حياتى حتى فى أيام الرئيس نيكسون والمستشار هنرى كسينجر». وفى المذكرات انتقادات شديدة لنائب الرئيس جو بايدين الذى «أخطأ أخطاء جسيمة فى جميع المواقف التى اتخذها فى كل قضية من القضايا الأساسية فى السياسة الخارجية الأمريكية على مدى أربعين عاما». وفى ظنى أن هذا الانتقاد وحده وبهذه اللهجة كافٍ للتسبب فى ضرر شديد سوف يصيب إدارة الرئيس أوباما ويؤثر فى أدائها خلال العامين القادمين. وبالفعل فقد انبرى البيت الأبيض يدافع فى بيان عاجل عن علاقة الرئيس بنائبه وخدمات بايدين لأمريكا. كذلك انتهز الجمهوريون الفرصة، وبخاصة السيناتور ماكين الذى صارت مصر تعرفه وربما تكرهه أكثر من غيره من رجال الكونجرس، ليشنوا هجوما شديدا على أوباما الذى «أخرج جيوشه من العراق قبل أن يحقق هدف الحرب». والغريب فى الأمر أن صاحب المذكرات نفسه يعتقد أن أمريكا حققت هدف الحرب. وهو «تفكيك سيطرة تنظيم القاعدة»، علما بأن القاعدة لم توجد بالعراق أيام حكم الرئيس صدام حسين وفى معظم سنوات الاحتلال. ••• لا شك أن نشر المذكرات الآن سوف يضيف دعما لتيار واسع من المفكرين يعتقد أن انحدار أمريكا يتسارع. وفى اعتقادى أن بعض ما جاء فى هذه التسريبات يمكن أن يثير اهتمام المتخصصين ويستحق التوقف عنده. يقول جيتس مثلا، «إن الحرب فى عصر أوباما أصبحت نوعا من ألعاب الفيديو أو فيلما سينمائيا غير دموى وغير مؤلم». يقصد طبعا آلاف الغارات التى شنها وتشنها طائرات الدرون «بدون طيار» على قرى أفغانستان واليمن. أعجبنى أيضا اعترافه بأنه قضى معظم وقته يحاول خلال عمله أن يتمالك أعصابه ويسيطر على غضبه، وأنه فى حقيقة الأمر لم يستمتع يوما بعمله وزيرا للدفاع.