على مدى الأيام الماضية، انتشرت بين الأوساط الثقافية أخبار عن مصادرة كتاب المجاهد الكبير عبدالرحمن الكواكبى «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ومعه روايتان لسلمان رشدى. الكتّاب والمثقفون وهذا حقهم والمنتظر منهم استنكروا المصادرة ودعوا إلى إلغاء كل أشكال الوصاية على الإبداع، وسخروا من مصادرة كتاب الكواكبى الذى مر على طبعته الأولى أكثر من قرن. ومثلما بدأت حملة التنديد بالمصادرة فجأة إذ بها تخفت وتهدأ ثم تتلاشى فجأة، بدا الأمر مريبا فلو كانت هناك بالفعل مصادرة فلماذا توقف الاحتجاج عليها، وإن لم تكن هناك مصادرة فلماذا نثير مخاوف القراء ونروج لمصادرة لم تحدث؟. هذه الحيرة كان لابد من حسمها بدأنا رحلتنا بمقابلة المشرف الفنى على جهاز المطبوعات والصحافة وهو الجهة المختصة بالرقابة على المطبوعات «خالد مختار» الذى نفى تماما معرفته بمسألة مصادرة الكتب المذكورة! وقال إن أعمال «عبدالرحمن الكواكبى» تحديدا معروفة للجميع ومن الصعب أن يكون قد صودر منها أى عمل. الثقة التى تحدث بها المسئول الحكومى دفعتنا للطواف بالمكتبات لكى نقطع الشك باليقين، وجدنا كل ما له علاقة بالكواكبى متوافرا، فهناك فى الأسواق طبعات من «طبائع الاستبداد» صادرة عن «الشروق» و«دار النفائس» و«لجمل» وغيرها من دور النشر، إضافة إلى طبعة من أعماله الكاملة التى درسها وحققها الدكتور «محمد عمارة» وصادرة فى مجلد كبير عن «الشروق». أما بالنسبة لأعمال سلمان رشدى فالأمر لا يختلف لا فى قليل ولا كثير، فالروايات موجودة فى كثير من المكتبات، بل إن «آياته الشيطانية» تباع على الأرصفة. إذن والحال كما وصفنا لماذا أشاع بعضهم أن روايات رشدى وكتاب الكواكبى قد تعرضت للمصادرة؟ سألنا الفقيه اللغوى «نصر حامد أبوزيد» عن هذا التحول المفاجئ للقضية، واتخاذها منحى تجاريا. فأكد أن هذا ليس بغريب ولا مفاجئ. وأضاف: لقد أدرك الجميع أن «المصادرة» صارت بالنسبة للمؤلف كما بالنسبة للناشر نعمة لا نقمة، ولهذا يسعى البعض لاستصدار قرارات مصادرة، فإن لم ينجحوا يشيعوا خبرا كاذبا، لتتحول المسألة برمتها إلى مهزلة. وأشار إلى أنه فى عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، تتحول مصادرة كتاب أو قصيدة أو لوحة أو أغنية إلى مهزلة، لما يخلقه ذلك من حالة من الانجذاب، مصدرها التشوق لمعرفة أين يكمن «الشر»، وذلك دون أن يدرى المصادرون أنهم يروجون لما تتم مصادرته. واستطرد أن ذلك يكشف واقعا مشوها ترتع فيه النميمة والكذب بدلا عن الصدق والشفافية، ليتضح بذلك الفرق بين هذه المجتمعات ومجتمعات الثقة. وأردف قائلا: «ما أسهل أن نصدق خبر «مصادرة»، إذ المصادرة صارت خبرا يوميا، وليس أشد غفلة ممن يظن أنه يمنع وهو فى الحقيقة يروج. واتفق معه الشاعر «شعبان يوسف» الذى وصف الأمر بأنه تقليد معروف، يمارسه بعض المنتسبين للكتابة والنشر لتسويق أنفسهم وترويج كتاباتهم عبر هذه الآلية. وقال «يوسف»: رأيت بعينى أحد الناشرين يكلم الرقابة لينبهها لمصادرة كتابه، وشاعرا آخر يبلغ عن نفسه، وغيره يضع خطوطا تحت العبارات المستفزة للرقيب فى كتابه قبل أن يرسله للأزهر. ويروى «يوسف» أنه منذ عامين هيجت الكاتبة «نوال السعداوى» الدنيا، بإعلانها مصادرة كتابها الذى أصدرته دار الهلال بعنوان «الرواية»، ثم عندما ذهب إلى الداروجده متاحا وغير مصادر، مؤكدا أن ثمة تواطئا بين الناشر والكاتب، يتم تفعيله عبر بعض الصحفيين المنتفعين، فتنطلق فقاعة المصادرة. واستشهد «يوسف» باثنتين من دور النشر اللتين اعتادتا إصدار كتب وأعمال إبداعيةٍ وفكرية مثيرة للجدل، هما دار «الجمل» الألمانية المشهورة بنشر كل ماهو خارج السياق ك«رجوع الشيخ إلى صباه»، و«الروض العاطر»، و«تاريخ الإلحاد» لعبدالرحمن بدوى وغيرها، ودار «سيناء» المصرية التى كانت تتبنى نشر كتب «سيد القمنى». وأردف: للأسف أصبحت دور النشر تصدر بيانات مفتعلة، بينما يناضل الكتّاب والمبدعون للحصول على درجة مضطهد، وصاحب كتاب ممنوع، حيث لا هدف سوى التهييج والترويج والمكاسب المادية. الكاتب والناشر «مكاوى سعيد» قال إن هذه الحسبة بأكملها ضد الكاتب والكتاب والعملية الثقافية برمتها، خصوصا إذا كان كاتبا جديدا يقامر بمصداقيته منذ اللحظة الأولى. وأوضح أن الرقيب قد فطن فى السنوات الأخيرة إلى عبث هذه اللعبة المكرورة، فامتنع تقريبا عن المصادرة، كى لا يخدم المستفيدين من هذه اللعبة، فلا توزع أعمالهم أو تقرأ بكثافة. وأكد «سعيد» أن كتاب المصادرة عادة مايكونون ضئيلى الموهبة، وتكشف أعمالهم ذلك، حال وصولها للقارئ، باعتباره المحك الرئيسى الذى من حقه وحده أن يصادر فيما بعد أعمال هذا الكاتب وناشره، لافتا أن انتقاد مدعى المصادرة بهذا الشكل، لا يعنى الانحياز للرقابة وتقييد التعبير. مسئول النشر بمكتبة مدبولى «رؤوف عشم» وصف عملية ادعاء المصادرة للترويج بأنها أسلوب رخيص لا يمت للثقافة بصلة. وقال «عشم» إن الدار ترفض على مدى تاريخها نشر أى شىء جدلى ويمس الأديان والعقيدة، موضحا أن قيام الدار بتوزيع الكتب البيروتية والأجنبية التى تحتوى مضامين جريئة، لا يحملها المسئولية عن هذه المضامين، بعكس النشر الذى يتورط فيه الناشر ويتضامن فى المسئولية مع المؤلف. وأضاف أن الأضرار المادية والمعنوية التى يتحملها الناشر، والتى قد تصل إلى الحبس تضعف جرأته حيال نشر وتوزيع أى مادة جريئة، مؤكدا أن إزالة وسائل الترهيب تلك ربما تجعل الناشر أكثر تفتحا وحرية، مع استمرار شرط عدم المساس بالعقيدة.