نعود إلى البدايات: ليس للديمقراطية، معرفة بسيادة القانون وتداول السلطة عبر صندوق الانتخابات الدورى وضمانات للحريات وللحقوق مستندة إلى المواطنة والمساواة، أن تتشكل مؤسساتها وتستقر إجراءاتها إلا فى إطار الدولة الوطنية ذات الإقليم الجغرافى المتماسك وأدوات إدارة المجتمع وتنظيم شئونه من تحديد قواعد المواطنة والملكية الخاصة والعامة وجمع الضرائب إلى فرض القوانين وتمثيل المواطن فى السياسة. تاريخيا وعلى اختلاف تجارب المجتمعات البشرية، لم تتطور ممارسات ديمقراطية مكتملة دون الدولة الوطنية. وظل دوما حديث بعض الفلاسفة والمفكرين عن الديمقراطية العالمية مثاليا، واعترى النقصان مساعى بعض الدول الوطنية المتجاورة لإنتاج أطر إقليمية ديمقراطية تتجاوز حدود الدول تدريجيا وتلغيها على المدى الطويل. الدولة الوطنية، إذن، هى المقوم الأساس للديمقراطية. إلا أنها، وكما تدلل تجارب المجتمعات البشرية، تحتاج لالتزام مبدئى بسمتين كبريتين لكى توفر البيئة الملائمة للديمقراطية ولتشكل مؤسساتها واستقرار إجراءاتها. السمة الأولى هى الحياد تجاه تمايزات المجتمع المرتبطة عادة بالنوع والعرق والدين والمذهب والمكانة الاجتماعية والآراء الفكرية والسياسية. يعنى حياد الدولة امتناعها عن التمييز فى قوانينها وممارساتها بين مواطناتها ومواطنيها، وكفالتها المساواة الكاملة بينهم وحمايتها إزاء النزوع الطبيعى للأغلبيات العددية لاستتباع الأقليات وللأقوياء (تقليديا الذكور وأصحاب النفوذ السياسى أو العسكرى أو الأمنى أو الاقتصادى والمالى) للهيمنة على الضعفاء وإخضاعهم. منادتنا بمبادئ الحريات والحقوق المتساوية، بتجريم التمييز ومواجهة العنصرية والطائفية والمذهبية، بفرص حياة متكافئة (تعليم وعمل ورعاية صحية وترقى) للمواطنات وللمواطنين فى سياق عدالة اجتماعية أو عدالة الحد الأدنى تستند جميعها إلى سمة حياد الدولة الوطنية. السمة الثانية هى احتكار الدولة الوطنية لحق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية لفرض القانون وتنفيذه بفاعلية على امتداد المجتمع. للقوة الجبرية مكونات أمنية وعسكرية وقضائية تحتاج الدولة لاحتكارها جميعا وعدم السماح لمجموعات أو لأفراد بتحدى هذا الاحتكار، إن بصيغ تقليدية كنزوع البعض فى المجتمع لفرض قوانينه وتنفيذ عدالته بيديه (شريعة الغاب) أو بصيغ حديثة كممارسة البعض للعنف وللإرهاب ضد الدولة ومؤسساتها أو ضد المجتمع أو ضد بعض قطاعاته. فبدون احتكار الدولة الوطنية لحق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية ومواجهتها لعنف المجموعات أو الأفراد لا سلم أهلى ولا عيش مشترك ولا سيادة قانون ولا استقرار وبالتبعية لا ديمقراطية ولا تداول للسلطة ولا انتخابات حقيقية. إلا أن احتكار الدولة الوطنية هذا يقتضى، لكى لا يتعارض مع الديمقراطية وينقلب إلى منشئ للاستبداد ومبرر لعنف الدولة وإجرام مؤسساتها، التزامها الكامل بالعدالة وبحماية حريات وحقوق المواطنات والمواطنين والامتناع عن انتهاكها دون تمييز. ويقتضى أيضا الابتعاد عن الاستخدام المفرط أو غير المسئول للقوة الجبرية وقبول مبدأ مساءلة الدولة ومؤسساتها وشخوص المسيطرين عليها حين حدوث ما يتناقض مع العدالة. ليس فى احتكار الدولة الوطنية لحق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية رخصة لعنفها أو لانتهاك حريات وحقوق المواطنات والمواطنين أو حماية دائمة للمسئولين من المحاسبة القانونية حين تورطهم فى عكس ذلك. هذا بالقطع، إن أردنا التأسيس للديمقراطية. غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.