لعل حالة الاضطراب السياسى وعدم الاستقرار التى تمر بها تركيا حاليا تطرح مجددا معطى مهما يتمثل فى أهمية هذا البلد وتعيد تأكيد بعد تقاربه مع العالم العربى ومصر فى قلبه ومن ثم تأثره به وتأثيره فيه. وإذا تحدثنا عن تطور وآفاق العلاقات المصرية التركية فإن ذلك ربما يختلف عن تناول العلاقات المصرية مع الكثير من الدول الأخرى، ليس فقط بسبب الجذور التاريخية العميقة لهذه العلاقات التى تناوب عليها الطابع الاستعمارى للدولة العثمانية قديما حينا، مع اعتبارات التنافس بين الأخيرة والدولة المصرية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر حينا آخر.
ولكن لأنها تمزج فى مرحلتها الحديثة والمعاصرة ما بين أوجه التشابه والتناقض بين مصر وتركيا من جهة، وما بين حرص تركيا الشديد مؤخرا على توطيد العلاقة مع مصر اعتمادا على عوامل مستحدثة من التقارب الفكرى بغية أن تصبح مصر حليفا استراتيجيا لتركيا تتمكن من خلالها من تحقيق مآربها الخارجية فى المنطقة، حينا آخر. ●●●
ولنبدأ بالتاريخ، إذ يبدو من استرجاع المحطات التاريخية الأخيرة بين البلدين أن عقدة الإحساس بالقهر والرغبة فى التحرر والخلاص من المستعمر لم تكن موجودة فى علاقة مصر بالدولة العثمانية على ما يزيد على القرن من تبعية مصر للأخيرة، خلافا للوضع الذى ساد علاقات الدولة العثمانية بولاياتها الأخرى فى المشرق العربى.
من ناحية لأن مصر وجدت فى العثمانيين رابطا مشتركا (تمثل فى الإسلام) يمكن من خلاله أن تستند إليه فى تحررها من المستعمر الإنجليزى، ومن ناحية أخرى لغياب الشعور بالتبعية والخضوع فى علاقة مصر بالدولة العثمانية منذ عصر محمد على الذى حقق نهضة حضارية وتوسعا عسكريا هدد العثمانيين بوصوله إلى مشارف الباب العالى نفسه، وأسس بالتالى علاقاته مع الدولة العثمانية على أسس الندية والتكافؤ.
إن اتباع كل من الجمهورية التركية والمصرية بعد تأسيسهما فى العشرينيات والخمسينيات على التوالى من القرن الماضى للحكم العسكرى وعبقرية موقعهما الجغرافى بما يتيح لهما بالانفتاح على العالم والتواصل معه، إضافة إلى خلوّ الماضى من منغّصات كبرى، كلها عوامل كانت كفيلة بأن تدس أسس علاقة جيدة بين البلدين.
إلا أن التناقضات التى فرقت بين الجمهوريتين فى البداية ربما كانت من الكبر الذى حالت دون وضع أسس جديدة لعلاقات تعاون بينهما. ففى حين اعتمدت مصر فى المضى قدما فى نهضتها بعد ثورة 1952 على الفكر الاشتراكية ومجابهة إسرائيل والتحسب من الغرب واستبداله بالحليف السوفييتى، فإن تركيا كانت فى المقابل عضوا فى الناتو وساعية للانضمام إلى الأسرة الأوروبية بما يتطلبه ذلك من تمسك بالقيم العلمانية الكمالية والتصالح بل التحالف مع إسرائيل، وكلها أمور حالت دون التقارب المصرى التركى على الأقل على مدى الثلاثة عقود الأولى من عمر الثورة المصرية.
وقد مثلت أواخر الثمانينيات مرحلة جديدة جاذبة للجانبين المصرى والتركى فى آن واحد ليس فقط بسبب انخراط مصر فى برنامج الإصلاح الاقتصادى المعتمد على الانفتاح النهج الليبرالى، لكنها لأنها مثلت من جانب آخر تحولا استراتيجيا لتركيا نحو البدء فى تنويع سياستها الخارجية على خلفية التغيرات التى شهدتها الساحة الدولية وأدت إلى تنامى المد القومى التركى مع بدء تفكك الاتحاد السوفييتى والاتحاد اليوغوسلافى والدور المحورى لتركيا فى حرب الخليج الأولى، بالشكل الذى شرعت فيه تركيا تدريجيا فى خلع الرداء التقليدى والذى قصرها على السير فى الفلك الغربى، فصارت أكثر حرصا على تنويع سياستها الخارجية عبر الإنفتاح على العالمين العربى والإسلامى. ●●●
إلا أنه فى الوقت الذى تنامى فيه ميل السياسة الخارجية التركية للتوجه شرقا مع مجىء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فى أنقرة وبما حققه من إنجازات اقتصادية ساندت هذا التوجه، ومع ضيق الأتراك ذرعا بالشروط الأوروبية لضمهم إلى الاتحاد الأوروبى جعلتهم أكثر ميلا إلى مجرد الاستفادة من المعايير الأوروبية وتفضيل سياسة التصالح مع الجيران والتركيز على التوجه شرقا.
فإن جمود الأوضاع السياسية فى مصر وانشغالها بعدد محدود من القضايا الدولية المرتبطة مباشرة بالولايات المتحدة والحفاظ على أمن الحدود مع إسرائيل، قد أحدث نوعا من عدم الارتياح لدى القاهرة من التوسع التركى فى المنطقة وقوى لديها الشعور بأن أنقرة تقوم بتعبئة الفراغ الناتج عن تراجع الدور المصرى عربيا وأفريقيا.
وقد استمر الوضع كذلك حتى قامت الثورة المصرية فى 25 يناير واعتلى حزب الحرية والعدالة الحكم فى مصر، وما أُعتبر آنذاك من أن التجربة السياسية المصرية تمثل تكرارا لتجربة حزب التنمية والعدالة التركى فى المنطقة العربية بما يؤهل الدولتين للتقارب من جديد.
وقد وجدت تركيا فى النظام السياسى المصرى ومصر حليفا مثاليا يؤازرها فكريا ويمكن لها الاعتماد عليه للنفاذ إلى المنطقتين العربية والأفريقية. عزز من ذلك غياب الأطراف الأخرى فى المنطقة التى يمكن لتركيا الاعتماد عليها وإن لم ينف ذلك وجود حلفاء انتقائيين لتركيا تنتفع منها لأغراض محددة، سواء فى الخليج وعلى رأسها السعودية (التى يمكن أن تكون شريكا اقتصاديا مهما) أو فى إسرائيل التى ستبقى دائما حليفا عسكريا (على الرغم من الخلافات الأخيرة بين البلدين).
أما كل من سوريا والعراق فهناك كثير من الأسباب الموضوعية سواء كانت مؤمنة بسبب اضطراب الأوضاع السياسية أو مشاكل تتعلق بالمياه أو التركيبة السكانية تجعل إقامة تحالف مستقر أمرا مستبعدا، ناهينا عن إيران لأسباب كثيرة ليس أقلها الاختلاف المذهبى مع تركيا. ●●●
وبقدر ما يحمل التقارب المصرى التركى الحالى من مزايا إقتصادية وسياسية وإستراتيجية بل وتكنولوجية وإدارية لمصر، بقدر ما يجب التحسب من الإفراط فى تصرف تركيا وكأنها ملاذا آمنا للنظام المصرى ومرشدا أدبيا له، وبقدر ما يتعين أن يحذر النظام من الإطمئنان كلية للنوايا التركية، فبعد التعاون سيأتى التنافس فى أعقاب تعافى مصر سياسيا واقتصاديا وسعيها إلى استئناف التأثير فى محيطها الإقليمى.
فتُرى هل يمكن أن يكون اضطلاع تركيا بدور متزايد فى المنطقة ليصبح نموذجا يحتذى من الأنظمة الإسلامية العربية خاصة فى مصر أمرا تباركه واشنطن لكبح جماح أى شطط قد تراه فى التوجهات السياسية فى أنظمة الحكم فيها؟ إن هذا السؤال أصبح مطروحا سواء بسبب تخبط عملية التحول الديمقراطى فى مصر، وهو ما لا تستطع تركيا إصلاحة أو فى ضوء بداية تبدد الصورة المثالية للديمقراطية الإسلامية على خلفية التطورات الأخيرة فى تركيا.
فعلى صانع القرار المصرى أن يعى التحدى الأساسى فى التعامل مع تركيا والمتمثل فى اضطلاع مصر بمهمة إقامة نظام عربى متكامل يلبى طموحات دول المنطقة وتطلعاتها ومبادئها، وهو نظام يجب أن يكون متعدد الأبعاد، قلبه هو الوطن العربى، ويقيم علاقات متميزة مع دول الجوار المؤثرة كتركيا.
ولعل هذا الخيار هو الأفضل بالنسبة لمصر لأنه يحرص على تحريك العالم العربى ككتلة واحدة فى مصالحه مع العالم كله بما فى ذلك تركيا، وإن كان سيواجه هذا الخيار تحدى استكمال ترتيب البيت العربى من الداخل ليتمكن من إتمام التكامل فيما بين بلدانه لتحديد قواسم مشتركة فى علاقاته الخارجية، كما أنه خيار قد لا يروق لتركيا التى لا تريد بالضرورة التعامل مع نظام عربى موحد ليست هى جزءا منه.
وختاما فلا شك أن هناك مصالح مشتركة واضحة لكل من مصر وتركيا فى بناء علاقة طبيعية تزيل آثار الماضى وتتأسس على توازن المصالح، وهو الأمر الذى يتطلب سياسات وحلولا خلاقة لها تبدأ بصياغة إطار متكامل للتعامل مع تركيا وثلاث دول دول أخرى هى إيران إثيوبيا إسرائيل وكلها خارج النظام العربى ولكنها مرتبطة به وتؤثر فيه وتتأثر به.