تواجه مصر أزمة فى توفير الطاقة أدت إلى تزايد الاعتماد على استيراد الوقود من الخارج خلال السنوات الأخيرة. وقد تجلت الأزمة فى تحول مصر إلى مستورد صافى للبترول إذ سجل الميزان النفطى عجزا قدره 0.3 مليار دولار بين صادرات وواردات المنتجات البترولية فى النصف الثانى من 2012 مقابل فائض قدره 1.3 مليار دولار فى نفس الفترة من 2011. كما تسرب الشعور بأزمة الطاقة إلى المواطن العادى فى صورة طوابير طويلة للحصول على السولار والبنزين من محطات الوقود علاوة على انقطاعات متكررة فى الكهرباء بسبب نقص الوقود المغذى لمحطات التوليد. وقد أدى تزايد الاعتماد على استيراد الوقود إلى استهلاك احتياطى النقد الأجنبى بوتيرة غير مسبوقة إذ قام البنك المركزى بتوفير 6.4 مليار دولار لتمويل استيراد المنتجات البترولية بما يعادل %44 من إجمالى النقد الأجنبى الذى أتاحه المركزى للحكومة خلال 2012. ويعبر هذا الرقم بشكل أدق عن الفجوة التمويلية فى قطاع البترول، وهى فجوة ضخمة وغير قابلة للاستمرار. وهنا يبرز السبب الرئيسى لأزمة الطاقة، وهو تآكل السيولة الدولارية مما يدفع الحكومة إلى استيراد كميات سولار وبنزين لا تفى بالطلب الفعلى، الأمر الذى يخلق أزمات متكررة فى السوق. لذا سعت الحكومة إلى البحث عن مصادر جديدة لاستيراد الطاقة شرط الحصول على تسهيلات ائتمانية فى السداد بالعملة الصعبة. وقد أفضت هذه المساعى إلى إبرام صفقات ثنائية لاستيراد خام البترول مع كل من ليبيا والعراق بالإضافة إلى صفقة أخرى قيد الدراسة لتبادل الغاز مع قطر.
ولتقييم الجدوى الاقتصادية لهذه الصفقات يجدر بنا التساؤل عن الشروط التجارية التى تحكمها؟ وماذا يميز هذه الصفقات عن آليات الاستيراد المتبعة مسبقا؟ وهل هناك مخاطر مرتبطة بالصفقات الثنائية وما مدى استعداد الحكومة المصرية لتحمل هذه المخاطر؟ وهل هناك بدائل عملية لهذه الصفقات تضمن حل أزمة الطاقة دون التأثير على استقلالية القرار المصرى؟
تعد ليبيا هى المحطة الأولى لسياسة الصفقات الثنائية إذ تم الإعلان عن اتفاق مبدئى لتوريد مليون برميل خام شهريا إلى معامل التكرير المصرية. ويبلغ حجم الصفقة 100 مليون دولار شهريا وفقا لأسعار البترول الحالية على أن أهم ما يميزها هو اتاحة فترة سماح طويلة تبلغ 12 شهرا، ولذلك لمساعدة مصر على تجاوز أزمة نقص السيولة الدولارية.
أما ثانى الصفقات الثنائية فكان مع العراق التى تعهدت بتوريد 4 ملايين برميل خام شهريا مقابل نحو 400 مليون دولار شهريا وفترة سماح تبلغ 3 شهور وفقا لتصريحات مسئولى قطاع البترول العراقى. وإجمالا فمن المتوقع أن تحصل مصر من كلتا الصفقتين على 60 مليون برميل خام فى السنة الأولى ما يعادل نحو 78 مليون طن مكافى من المنتجات البترولية. وأهمية هذا الرقم أنه يعادل نحو %20 من السعة الإجمالية لقطاع التكرير المصرى والذى يعمل بنصف طاقته فقط حاليا وفقا لبيانات وزارة البترول. ويعد العامل المميز فى هاتين الصفقتين هو وجود فترات سماح طويلة مقارنة بموردى الوقود الدوليين الذين يشترطون تحصيل مستحقاتهم نقدا لتشككهم فى قدرة الحكومة المصرية على الدفع بالعملة الصعبة. ويهدف طول فترات السماح مع ليبيا والعراق إلى منح الحكومة المصرية مهلة أطول للحصول على تدفقات دولارية من صندوق النقد الدولى والمانحين الأجانب.
أما صفقة الوقود الثالثة فتهدف لتبادل الغاز مع دولة قطر، لكنها مازالت قيد الدراسة. وحسب دوريات متخصصة فى الطاقة فمن المتوقع أن تطلب مصر 2 مليون طن غاز مسال سنويا من قطر على أن تتضمن الصفقة تسهيلات فى السداد حفاظا على موارد مصر المحدودة من النقد الأجنبى.
ولكن بخلاف المزايا الظاهرة لهذه الصفقات من حيث ارتفاع الكميات وتسهيلات السداد فهناك مخاطر على الحكومة المصرية مراعاتهم بدقة. يتمثل الخطر الأول فى عدم وضوح الأثر المالى الناتج عن هذه الصفقات. فالحكومة تهدف لاستيراد الخام الليبى والعراقى بقيمة 500 مليون دولار شهريا لتكريرهم واستهلاكهم محليا، علما بأن فاتورة استيراد المنتجات البترولية بلغت نحو 530 مليون دولار شهريا فى المتوسط وفقا لبيانات البنك المركزى عن استخدامات النقد الأجنبى خلال 2012. ومع إضافة تكاليف استيراد الخام الأخرى كالشحن والنقل والتأمين وتأهيل المعامل فقد لا تؤدى صفقات الوقود الثنائية إلى تحقيق وفر حقيقى فى فاتورة الواردات بل قد تؤدى إلى تزايد عجز الميزان التجارى فى المدى المتوسط. أما الخطر الثانى الناتج عن هذه الصفقات فيتمثل فى احتمال وجود شروط سياسية غير معلنة قد تؤثر على استقلالية القرار المصرى فى الملفات الإقليمية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإعلان عن صفقة الخام الليبى تزامن مع تحركات مصرية رسمية لتسليم رموز عائلة القذافى إلى ليبيا فيما يوحى بوجود تربيطات سياسية خلف ستار التعاون الاقتصادى.
وتدفعنا هذه المخاطر المالية والسياسية إلى التساؤل عن مدى وجود بدائل حقيقية لحل مشكلة الطاقة مع تفادى أضرار الصفقات الثنائية؟ أحد البدائل هو أن يتم تحويل هذه الصفقات قصيرة الأجل إلى شراكات استراتيجية تضمن استمرارية توريد الخام المستورد إلى المعامل المصرية مع تحصين وارداتنا من تقلبات العلاقات السياسية مع الدول الموردة. وفى هذا الإطار من الممكن دراسة تمليك حصص فى معامل التكرير المصرية إلى حكومات الدول الموردة مقابل توقيع اتفاقيات توريد طويلة الأجل تضمن سد احتياجات السوق المحلية وترشيد مواردنا الدولارية من ناحية، وإتاحة منفذ لتصريف الخام العربى من ناحية أخرى. ويعد هذا النوع من الشراكات أكثر نفعا وأقل خطرا من الصفقات الثنائية ذات الأجل القصير والدوافع السياسية.
إن صفقات الوقود الثنائية ليست حلا مستداما لأزمة الطاقة فى مصر، كما أن تأثيرها المتوقع على توفير موارد النقد الأجنبى يبدو محل شك. ويبقى الخطر الأكبر فى احتواء هذه الصفقات على ملاحق سياسية تفرض على القرار المصرى شروطا وإملاءات قد تضر بعلاقاتنا الدولية. وعلى الحكومة أن تتبع مبدأ الشراكة لا المقايضة فى هذه الصفقات حتى تحقق الهدف التى أبرمت من أجله، وهو توفير مصادر وقود مستدامة واقتصادية للمستهلك المصرى.