هل أتت على مصر حقبة زمنية من تاريخها المعاصر اتسمت فيها سياستها الخارجية بالتهميش وعدم القدرة على التأثير على مجريات الأحداث فى محيطها الإقليمى؟ يأتى هذا السؤال من منطلق حرص كل مواطن مصرى على صورة ووضع بلده فى المنطقة بل والعالم. ينبع هذا الشعور كنتيجة منطقية لإدراكه رغم انشغاله بهموم الاستقرار الداخلى بالارتباط القوى للسياسة الخارجية بالداخلية لمصر كل يؤثر بالآخر سلبا كان أو ايجابا. فمصر ربما تعد من أكثر الدول التى تتفاعل فيها السياسة الداخلية مع الخارجية بشكل فريد. فمن المشروع أن يتساءل المواطن المصرى عن عدم تضمين القاهرة فى الزيارات الثلاث السابقة والزيارة القادمة التى قام ويقوم بها وزير الخارجية الأمريكى الى المنطقة والتى تتضمن عدة محطات إقليمية، خاصة أن الهدف المعلن للزيارة هو التشاور حول قضيتين محوريتين فى المنطقة، الأولى الأزمة السورية وبلورة مقترح للخروج من الأزمة، والثانية عملية السلام فى الشرق الأوسط توطئة لطرح مبادرة أمريكية جديدة.
ومن المؤكد أن التبرير لعدم زيارة كيرى للقاهرة سيكون بأن الاتصالات بين القاهرة وواشنطن لا تنقطع وأنه بكل الأحوال سوف يكون فرصة لإجراء مشاوارات ثنائية فى عمان على هامش مؤتمر أصدقاء سوريا وربما فى أديس أبابا على هامش القمة الأفريقية. وحتى بافتراض حدوث تلك اللقاءات فالحقيقة أن الرمزية فى السياسة الخارجية تحتل مكانة بارزة لا يمكن التغاضى عنها وبالتالى فإن تجاهل وزير الخارجية الأمريكى زيارة مصر للمرة الرابعة خلال الأشهر القليلة الماضية ما هو إلا انعكاس لشعور عام بأنه لا يمكن التعويل على المساهمة الإيجابية لمصر فى المرحلة الحالية فيما يخص القضايا المصيرية فى المنطقة.
•••
ولفهم ما وصلت إليه السياسة الخارجية المصرية الآن، فمن استعراض تطورها فى العصر الحديث وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية فقد شرعت مصر وحتى قبل ثورة يوليو فى بلورة رؤية متكاملة للسياسة الخارجية مبنية على ثلاثة أسس تعتبر تقدمية بمعايير المرحلة التاريخية للنظام الدولى آنذاك. وهى صياغة نظام إقليمى عربى مؤسسى كان أبرز معالمه إنشاء الجامعة العربية، وسلك نهج مستقل بعيدا عن تحالفات القوى العظمى تجسد فى التباعد عن النفوذ الخارجى قدر الإمكان، والتركيز على الدبلوماسية متعددة الأطراف والتى انعكست بشكل واضح فى المساهمة الفعالة فى إنشاء الأممالمتحدة وصياغة ميثاقها. وقد تمخضت تلك الأسس عن بلورة إطار حاكم للسياسة الخارجية هدفه الأساسى دعم كفاح الشعب المصرى فى تطلعه للاستقلال التام واسترداد كرامته وحصوله على كامل حريته فى إدارة شئونه الداخلية والخارجية.
ولقد استمر هذا النهج بعد قيام ثورة يوليو 1952، حيث أعيد التأكيد وتطوير تلك المبادئ فكان لمصر دور رائد فى تأسيس حركة عدم الانحياز ومساندة حركات التحرر، فضلا على التعامل المتوازن مع النظام الثنائى القطبية، ومن ثم ظلت لمصر مكانتها المؤثرة دوليا التى يحسب لها الغرب والشرق على حد سواء. ومع ذلك فلم تكن السياسة الخارجية المصرية دون إخفاقات، فكان لها نصيب ليس بقليل من الكبوات خلال الستينيات توجت فى هزيمة 1967.
ويمثل توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979 كسرا للأسس الثابتة للسياسة الخارجية المصرية. إذ أعقب ذلك استبعاد مصر من الجامعة العربية وفقدان موقعها فى حركة عدم الانحياز وتراجع دورها فى الإطار الدولى متعدد الأطراف.
وقد أدى النهج الجديد سالف الذكر خلال عهد الرئيس السادات إلى غياب الاتساق فيما بين شخصية المصرى وما بين توجهات سياساته الخارجية التى طالما قامت على أسس الانتصار للحق العربى واعتبار الكيان الإسرائيلى جسدا غريبا فى المنطقة والتوافق مع الولاياتالمتحدة وهى أكبر مدافع عن إسرائيل فى انتهاكاتها للحق العربى، وقد اغتيل السادات قبل بلورة رؤية جديدة تتماشى مع المتغيرات الدولية ومع تبعات قراره بتوقيع السلام مع اسرائيل.. ثم جاء الرئيس مبارك الذى افتقر إلى الكثير من مقومات القيادة والإقدام والابتكار التى تمكنه من التأثير فى تشكيل السياسة الخارجية المصرية للتعامل مع التطورات الجديدة على خريطة السياسة الدولية، كوجود بوادر لتغير النظام الدولى بانهيار الاتحاد السوفييتى، وتراجع بريق الأيديولوجية الاشتراكية، وصعود الصين والقوى البازغة، والاهتمام الذى أخذ فى التصاعد بموضوعات جديدة كالبيئة والتنمية المستدامة ودبلوماسية التنمية ونزع السلاح ومنع الانتشار واتخاذ مواقف تبرز المصالح المصرية فى مواجهة العالم والتعامل مع إسرائيل، إلا أن جهوده لمعالجة الانقطاع فى علاقات مصر بالدائرتين العربية والإسلامية، وتمكنه من الحفاظ على قوة الدفع التى بدأها السادات فى العلاقات مع الولاياتالمتحدة قد أعطى حالة من الاستقرار والثبات فى السياسة الخارجية المصرية على مدى العقد الأول على الأقل من حكمه، وقد ساعده على ذلك دور نشط أظهرتها وزارة الخارجية المصرية، استطاعت من خلاله تفعيل الديناميكية المصرية فى التعامل مع المستجدات الدولية والإقليمية.
ثم تبع ذلك انتشار حالة من الجمود فى السياسة الخارجية المصرية، وقد كان ذلك استكمالا لسياستها الداخلية الجامدة التى سيطر عليها بروز قضية وحيدة هى قضية التوريث، وتجسد ذلك فى مواقف تسببت فى إحباط لدى المواطن المصرى كالحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009 وعدم تفهم مواقفنا من العلاقات مع إيران وسوريا.
وجاءت ثورة يناير 2011 لتعبر عما عاناه المواطن المصرى فى النيل من كرامته على المستويين الداخلى والخارجى. فهل ستغتنم مصر هذه الفرصة الهائلة لإعادة رسم سياسة خارجية قوية مبنية على أسس جديدة تحقق المعادلة الصعبة من خلال مواءمة أثر الصدمة التى أصابت المواطن المصرى من التفريط فى ثوابته الأصيلة، وتمكنه فى الوقت نفسه من تنويع اهتمامات السياسة الخارجية جغرافيا ووظيفيا شرقا وغربا بما فى ذلك العلاقات مع القوى البازغة الصاعدة على السياسة الدولية على أسس من الاحترام المتبادل والتكافؤ والمصالح المشتركة للجميع.
وللأسف فإن المؤشرات حتى هذه اللحظة لا تنم عن وجود رؤية واضحة واطار حاكم للسياسة الخارجية لتعيد لمصر دورها الفعال على الساحة الدولية. فالتحركات الخارجية فى المرحلة الحالية نشاطا محمودا ولكنه لا يضيف الى رصيد مصر الإقليمى وقدرتها فى التاثير على القضايا الحيوية فى المنطقة. ولعل السبيل الوحيد لحل هذه المعضلة فى سياسة مصر الخارجية يكمن فى بناء نظام سياسى يمثل نموذجا يحتذى به من قبل دول المنطقة.
•••
إن النجاح فى عملية إقامة نظام ينبع من خصوصيات المنطقة العربية هو الأساس الحقيقى الذى يجب أن تبنى عليه السياسة الخارجية فى المرحلة المقبلة، فهو بمثابة اللبنة الرئيسية القادرة على إعادة مصر الى موقعها التقدمى المعهود المواكب لتطورات المرحليه. وعليه فلتكن السياسة الخارجية انعكاسا لقوة وكفاءة وفاعلية النظام على المستوى الداخلى، لتستمد مصر نجاحها وقدراتها على التاثير فى محيطها من اتساقها مع مبادئ واضحة (وهى فى هذه الحالة مبادئ ثورة 25 يناير العظيمة) ولتخلق مصر نموذجا للدولة التى تتأسس على الحق والعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان وتحث على الإبداع والتقدم والابتكار، مدعومة بالإرث التاريخى لمصر كمجتمع يجمع بين احترام تقاليده الثابتة والانفتاح على الثقافات الأخرى وبعيدا عن أى أيديولوجيات جامدة أو أفكار أسيرة للماضى مهما كان عظيما. اذ يعلمنا التاريخ أنه حين ادركت مصر أدوات وسبل الانفتاح على العالم وأخذت بزمام المبادرة للانخراط والتأثير فيه والتعلم منه، نجحت فى بناء دولة قوية حديثة ومتطورة بكل المعايير.