دعتنى إحدى الجهات البحثية للتحدث حول المستقبل العربى وتركوا لى اختيار موضوع المحاضرة. ولم يكن من الصعب الاختيار ونحن نرى التحديات التى يعيشها المجتمع العربى. تلك التحديات الاقتصادية بالأساس التى جعلت بائع خضر فى تونس يشعل فى نفسه النار احتجاجا على ضيق الحال وغلق سبل العيش الكريم أمامه، فأشعل ثورة نبيلة بيضاء أضاءت المجال العربى كله من المحيط إلى الخليج. ولخصت الثورة المصرية شعار المرحلة القادمة بالمطالبة ب«عيش، حرية، عدالة اجتماعية». ومما لاشك فيه أن التحديات التى تواجه الاقتصاد العربى كثيرة. ولعل أولها هى مشكلة البطالة، وبطالة الشباب بالذات التى تبلغ فى بعض الدول غير البترولية ما يقرب من 45% من القوة العاملة الشابة، ويعنى هذا ببساطة ليس فقط حرمان نصف القوة العاملة الجديدة من المساهمة فى الإنتاج وازدهار الأوطان ولكن أيضا ضياع مستقبل جيل إضافى لم يأخذ الفرصة فى الرعاية والتربية السليمة على يد شباب اليوم التى لم تتح لهم الظروف تكوين أسر مستقرة.
والمشكلة الثانية التى يتعرض لها الاقتصاد العربى هى انكشافه على الخارج ليس فقط فى واردات الغذاء والسلع الأساسية ولكن أيضا لأن صادراته من البترول والسلع الأولية الأخرى (القطن، الأرز، الفوسفات، خام المنجنيز...) تتعرض لتقلبات عنيفة فى أسعارها. وبسبب هذه التقلبات، وأيضا لعدم ثبات خطط التنمية الاقتصادية العربية وانخفاض معدلات الاستثمار، تظهر المشكلة الثالثة ألا وهى عدم تحقق معدلات نمو عالية ومستمرة. بل إن الناظر إلى منحنى أداء الاقتصاد العربى يجده يتقلب صعودا وهبوطا مثل لعبة «اليويو» التى يلهو بها الأطفال، بينما تنطلق الاقتصادات الناهضة فى آسيا وأمريكا اللاتينية بسياسات مستقرة ومعدلات نمو ثابتة.
هناك مشاكل أخرى بعضها أسباب أو نتائج لأسباب أخرى، ومنها إخفاق مسيرة التعاون الاقتصادى العربى واتساع هوة التنمية العربية بين الدول البترولية وغيرها من الدول. فبينما حققت قطر، الدولة الصغيرة، أعلى مستوى لدخل الفرد فى العالم بتقديرات تصل إلى 140 ألف دولار فى العام مازالت الصومال وجيبوتى وموريتانيا فى ذيل قائمة الدول بدخل يقترب من 400 دولار للفرد فى العام.
●●●
مع كل هذه التحديات هل هناك مجال للتفاؤل بالنسبة للاقتصاد والمجتمع العربى؟! وللإجابة عن هذا السؤال من الواجب أن ننظر إلى الأمد المتوسط ونحلل عناصر القوة والضعف فى الاقتصاد العربى. ولا يجب أن ننسى أن معظم الدول العربية حصلت على استقلالها منذ ما لا يزيد على ستين عاما. وأن بعضها مثل مصر وسوريا والأردن انشغلت بحروب إقليمية مكلفة بينما تعرضت دول أخرى مثل لبنان وليبيا والعراق والصومال للنزاع الداخلى بل والغزو الأجنبى.
مع كل هذه التحديات تمكنت الدول العربية مجتمعة من رفع مستوى المعيشة ومستوى التعليم والصحة. فهل ننسى مثلا أن الإنسان العربى قد زاد متوسط عمره المتوقع نتيجة تحسن مستوى الصحة العام والتغذية بحوالى عشرين سنة كاملة فى الأربعين عاما الأخيرة. وهل نتغاضى عن تضاعف مستويات الدخل بالرغم من التحديات الكبيرة، وقد استقلت دولنا بمواردها المغتصبة (ابتداء من تأميم قناة السويس إلى تأميم النفط)، وارتفعت أسعار صادراتنا النفطية فى أعقاب حرب أكتوبر المجيدة، وتنوعت الصادرات بحيث بدأت المصنوعات من المنسوجات والأسمدة وحديد التسليح والأسمنت والبتروكيماويات. وبرعت الدول العربية فى صادرات الخدمات من السياحة وخطوط الطيران وشركات الاتصالات والمكون المعلوماتى والفنى. وحتى الشكوى الدائمة من انخفاض حجم التجارة البينية العربية بدأت تخبو مع التوصل لاتفاقية التجارة الحرة، وقفزت التجارة العربية إلى مستويات قياسية. وبدأت لحمة الاقتصاد العربى فى الالتآم مع زيادة عدد رحلات الطيران والربط البرى بين بعض الدول العربية وكذلك الربط الكهربى والغازى بين دول المشرق العربى.
لماذا الشكوى إذن، وكيف نحقق المزيد؟ الشكوى التى تثيرها النخب المدنية لها كل الحق فما تحقق يمكن تحسينه. وإخفاقات السياسة الاقتصادية تعنى أن هناك حلولا لم تختبر وأن هناك استئثار بالقرار الاقتصادى بعيدا عن المختصين وأصحاب المصالح من الشعب.
●●●
ما المطلوب فى المرحلة القادمة؟ لعل المكون الأول للسياسة الاقتصادية فى المرحلة القادمة هو العمل على الإسراع بمعدلات النمو وتأكيد أهمية التقشف والإدخار كوسيلة لزيادة الاستثمارات. ومع الدعوة إلى استقبال رءوس الأموال الأجنبية فإن الاستثمار المحلى أولى بالرعاية. كذلك على الدول العربية تفادى المديونية الخارجية كلما أمكن وأن تخلق كيانات اقتصادية كبرى تعمل على المستوى القومى العربى.
كذلك من الواجب أن تكرس كل جهود الدولة فى خلق فرص العمل للداخلين الجدد إلى سوق العمل والشباب، ويعنى هذا فى الواقع تغيير جذرى فى طرق وعلاقات الإنتاج، فالتنمية كثيفة الاستخدام لرأس المال لا تصلح لعالمنا العربى. ويجب تشجيع التقنيات البديلة التى تشغل البشر وتحافظ على البيئة. ويرتبط بهذا الاهتمام بالمناطق الريفية والنائية وتشجيع الحرف والصناعات الصغيرة، ويجب أن يمتد الأمر إلى العلاقة بين صاحب رأس المال والعمال التى أصابها الكثير من العطب وأصبحت العلاقة علاقة صراع وليست علاقة تعاون. بل إن هناك من رجال الأعمال من يعتقد أن العامل هو عدوه الأول وليس شريكه فى النحاح. وأدت هذه الصراعات، فى غياب تدخل الدولة كوسيط شريف ومحكم، إلى تفضيل التكنولوجيا المتقدمة قليلة الاستخدام للعمالة مما أدى إلى المزيد من البطالة والتبرم بين العمال.
ومن المهم العمل على تقوية التكامل العربى ودعم المؤسسات العربية المشتركة. ذلك أن العولمة الجديدة ليس فيها مكان للكيانات الصغيرة. ولعل تجربة الانهيار المالى الذى تعرضت له دبى أبان الأزمة المالية العالمية أكبر دليل.
وفى هذا المجال من الواجب الاهتمام بإعادة هيكلة جامعة الدول العربية التى أصبحت ملاذا لتقاعد المحظوظين من أساطين البيروقراطية العربية الذين اكتفوا بالكلام بدلا من حل المشكلات. وتحججوا بغياب الإجماع العربى بدلا من المبادرة فى استكشاف حلول وسياسات قد لا ترضى الجميع ولكن تنفع الأغلبية. وكذلك من الواجب تنشيط المؤسسات الاقتصادية العربية الكبرى التى ظهرت إلى الوجود إبان الفورة القومية التالية لنصر أكتوبر المجيدة (مثل الصندوق العربى للإنماء الاقتصادى والاجتماعى ومقره الكويت، وصندوق النقد العربى ومقره أبوظبى، والبنك الإسلامى للتنمية فى جدة) وحثها على وضع تصور للمستقبل العربى البديل. وأن تعمل على تمويل المشروعات المشتركة وعلى ربط خطوط الكهرباء والسكك الحديدية والطرق.
●●●
وفى النهاية نقول إن الوضع الاقتصادى العربى قد لا يكون عند المستوى المطلوب ولكن هناك مجال كبير للإصلاح والتقدم نحو مستويات عالية من التشغيل والرفاهية. كل هذا بشرط العمل على ترشيد عملية القرار الاقتصادى والاجتماعى وتوسيع الأسواق العربية وتحقيق التناسق فى السياسات والمنظمات.