على الرغم من كثرة الوقائع التاريخية التى جرت أحداثها على أرض مصر فإن شهرة بعض الوقائع قد طغى على الأخرى رغم أن بعض تلك الوقائع قد جرت أحداثها فى مكان واحد وفى فترة زمنية متقاربة، ولعل أقرب الأمثلة على ذلك ما قام به رجال المقاومة الشعبية فى رشيد ودورهم فى إلحاق الهزيمة بجنود الحملة الإنجليزية بقيادة فريزر فى مارس 1807، علما بأنه قبل هذا التاريخ بتسعة أعوام وفى مدينة رشيد وتوابعها إدكو وإدفينا كانت هناك مقاومة شعبية قوية ضد الحملة الفرنسية، خاصة وأن سقوط المدينة فى يد الفرنسيين بعد هروب المماليك منها كان إيذانا بتوهج واشتعال المقاومة الشعبية وصمودها فى مواجهة الحملة. فلماذا اشتهرت واقعة هزيمة الإنجليز فى رشيد ولم تشتهر كذلك حركة المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين فيها؟ هل لأن هزيمة الانجليز قد جرت فى بداية عهد محمد على وفى وقت بدأ يفرض فيه سيطرته على البلاد ومن ثم سُجلت أحداث تلك الحملة للدلالة على أهمية وقوعها فى عهده؟ أم أن المقاومة الشعبية لحملة فريزر قد اشتهرت بما ابتكره الأهالى من أساليب للدفاع والمقاومة واستخدام الخديعة والمفاجأة؟ وهل يرجع أيضا عدم شهرة المقاومة الشعبية للحملة الفرنسية على رشيد إلى أن تلك الفترة قد شهدت حركات للمقاومة فى شتى أرجاء البلاد بحيث لم تخل قرية من القرى أو مدينة من المدن من المقاومة، فأصبحت المقاومة فى رشيد كغيرها من حركات المقاومة المنتشرة فى البلاد تتقارب فى سماتها من حيث الحماسة والوطنية والصمود والبسالة؟
ونعود إلى واقعة الاحتلال االفرنسى لرشيد والتى بدأت فى يوليو سنة 1798، فبعدما انتهى نابليون من احتلال الإسكندرية أرسل الجنرال «دوجا» لاحتلال رشيد، فسار «دوجا» بقواته من الإسكندرية برا واحتل القرى الواقعة فى طريقه وعلى رأسها أبو قير حتى وصل إلى رشيد فى السادس من يوليو سنة 1798، وتزامن مع هذه الحملة البرية قدوم أسطول من السفن المحملة بالمدفعية الخفيفة بقيادة الكونتراميرال بيرى الذى عبر بوغاز رشيد لمساندة القوات البرية بقيادة دوجا. وقد وجد الجنرال دوجا أن المماليك قد هربوا من المدينة فلم يجد مقاومة تذكر حين دخلها فى الوقت الذى قام فيه الأهالى بتشكيل حكومة أهلية تتولى إدارة شئون المدينة.
لذلك ظن قادة الجيش الفرنسى بعدما دخلوا المدينة ولم يلقوا أى مقاومة فيها أن ذلك قد يكون راجعا لامتثال الأهالى لتعليمات ومنشورات نابليون والتى أمرهم فيها بالهدوء والسكينة وعدم المقاومة عندما احتل الإسكندرية كما ذكره الرافعى عن دفيلييه أحد مهندسى الحملة الفرنسية: «وكان أهالى رشيد قبل إطلاعهم على هذه المنشورات عازمين على قتل الأوروبيين، فلما اطلعوا عليها رجعوا عن عزمهم».
وعلى الرغم من أن المناخ العام وقتها كان يوحى بعدم إمكانية ظهور مقاومة لرجال الجيش الفرنسى، إلا أن الأيام قد أثبتت خطأ اعتقادهم بسهولة احتلال رشيد وضواحيها وبعدم وجود مقاومة، بينما كانت الحقيقة أن الأهالى كانوا ينتظرون الوقت المناسب للدفاع عن أنفسهم وأرضهم وبلادهم. ولقد وجد دوجا قائد الحملة على رشيد أنه من السهل ترك حامية مكونة من مائتى جندى فقط لحفظ الأمن والاستقرار بالمدينة لحين قدوم الجنرال منو المعين من قِبل نابليون لحكم رشيد والذى استشعر خطورة قلة عدد جنود الحامية، فطلب إمداده بقوة أخرى من الجنود خوفا من قوة حركة المقاومة التى توقعها من الأهالى، وبالفعل لم يمض أكثر من عشرة أيام حتى ثبت ما تخوف منه منو؛ ففى 16 يوليو هاجم أهالى مطوبس وإدفينا الكولونل داماس المبعوث من كليبر إلى نابليون فاضطر داماس للرجوع إلى رشيد، وفى المرة الثانية أطلق الفلاحون على سفينته الرصاص من جانبى النيل، وبعد الهزيمة القاسية التى تلقتها القوات الفرنسية فى موقعة أبو قير كان ذلك دافعا لاستبسال الأهالى فى المقاومة.
وقد استفز صمود وبسالة المقاومة الشعبية الجنرال منو، وتشهد قرية السالمية التابعة لمركز فوه بكفر الشيخ على ما قام به منو تجاه الأهالى ردا على مهاجمتهم لجنوده وقتلهم لثمانية منهم بقتل كل من يحمل السلاح فى القرية ومصادرة المواشى وأمره بإحراق القرية بالنار وقتل تسعة من الأهالى.
ولقد أشار الرافعى إلى أن الجنرال منو قد خشى بعد كارثة أبو قير البحرية أن يفكر الانجليز فى إنزال قواتهم إلى البر، فأخذ فى توطيد مكانته بين الأهالى بالتودد والتقرب إليهم لكنه لم يوفق فى ذلك، وفاجأته حركات المقاومة من مكان لآخر، مثلما حدث معه عندما أراد التجول بشمال الدلتا وصحب الجنرال مارمون وبعض الضباط فى كتيبة تبلغ مائتى جندى وخرج من رشيد فى 12 سبتمبر إلى برنبال ثم مطوبس وفوة ودسوق، وفوجئ منو بمقاومة أهالى شباس عمير فقام رجاله بإطلاق النار عليهم مما أدى إلى تراجع الأهالى، وفى أثناء ذلك لم يستطع الرسام جولى المرافق للحملة اللحاق بمنو فقتله الأهالى، فهجم منو بقواته على شباس عمير التى كانت محصنة بسور وأبراج، والتى أخلاها الأهالى مع الهجوم الفرنسى إلا برجا واحدا أطلقوا منه النار على الفرنسيين، فأودت رصاصة بجواد الجنرال منو فأمر بإضرام النار فى القرية، وعندما جاء سكان القرى المجاورة لنجدة إخوانهم أمر منو بإطلاق النار عليهم واضطر إلى الانسحاب بعدما زادت حشود الأهالى ووقوع عدد من القتلى فى صفوف جنوده وإصابة تسعة عشر منهم، فعاد بكتيبته إلى سنهور ومنها إلى دسوق ثم رشيد.
ولم ترهب المدافع الفرنسية وإحراق القرى الأهالى فقد توحدوا فى مقاومتهم للاحتلال، وبغض النظر عما أورده الرافعى من أن السفن الإنجليزية والتركية كانت توفد بعض الرسل إلى الشاطئ لتحرض الأهالى وتشجعهم على الثورة، فإن الأهالى أنفسهم كانت لديهم الرغبة الذاتية فى الدفاع عن أرضهم وبلادهم دون تحريض أو تشجيع من أحد، وقد استمرت تلك المقاومة بصور مختلفة ففى 20 نوفمبر سنة 1798 احتشد الأهالى حول رشيد فقامت القوات الفرنسية بإلقاء القبض على بعضهم، وكانت الاتهامات الفرنسية جاهزة «القيام بأعمال عدائية ضد رجال الحملة الفرنسية» فأمر منو الذى ازدادت شراسته مما لاقاه من مقاومة شديدة بالقبض على مشايخ إدكو وإدفينا الذين قادوا الأهالى فى المقاومة وأججوا فيهم روح الوطنية والبسالة، وطلب إحضارهم إلى رشيد وقتلهم رميا بالرصاص بتهمة مقاومة رجال الحملة الفرنسية وتحريضهم للأهالى.