(هذا المقال نشر بتاريخ 5 يوليو 2009) تقدر وكالة الطاقة الدولية حجم الاستثمارات المطلوبة للتنقيب عن النفط فى العالم خلال 2009 بنحو 375 مليار دولار، كما يقدر التمويل المطلوب لمشروعات الخليج العربى هذا العام بنحو 105 مليارات دولار. وقد شرحنا فى مقال سابق (بتاريخ 28/6/2009) كيف تتمتع المشروعات النفطية بأولوية فى الحصول على التمويل اللازم مقارنة بغيرها من الصناعات. ونضيف هنا أن ثمة مصدرين للتمويل أخذت أهميتهما فى الازدياد مؤخرا، وهما: أولا، سندات المشروع Project bonds التى تتمتع بالتصنيف الائتمانى المرتفع للقائمين بالمشروع Sponsors وأغلبهم دول أو شركات نفطية، ومن ثم تتضاءل مخاطرها. ومما يعزز تلك السندات أن نصيب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA من السوق العالمية للسندات يقدر بنحو 9% بينما يتقلص معدل الإخفاق فى الاسترداد إلى 3%. أما المصدر الثانى للتمويل، فهو وكالات ائتمان التصدير Export Credit Agencies التى أخذ دورها فى الارتفاع لسد جانب من الفراغ الذى خلفه عجز البنوك عن مواجهة الطلب على القروض. ولعل مما يساند دور هذه الوكالات أن قروضها تستخدم عادة فى الاستيراد من الدولة التى تتبعها الوكالة مما يجعلها تحظى بدعمها. ومن ناحية أخرى، فإن المشروع النفطى الباحث عن التمويل يتمتع، كما ذكرنا، بتصنيف ائتمانى مرتفع. كذلك تتعدد مصادر التمويل بالنسبة لكل مشروع نفطى، ومن ثم تتوزع المخاطر بين المقرضين وتخف خطورتها. وهنا يثور السؤال: ما نوع الأنشطة النفطية التى تستخدم فيها القروض، وما حجم المخاطر التى تنطوى عليها؟ والإجابة البسيطة: أن ما يمول بالقروض يغلب أن تكون مشروعات قليلة الخطورة كمعامل التكرير، ومصانع البتروكيماويات، وناقلات النفط والغاز، وخطوط الأنابيب الخادمة لأنشطة طويلة الأجل ومن أمثلتها مشروع دولفين لتزويد الإمارات وعمان بالغاز القطرى والذى يشارك فى تمويله 23 مصدرا للتمويل. أما أنشطة التنقيب عن النفط وتنميته وإنتاجه فتتدرج فيها المخاطر، إذ تقل فى تنمية حقول سبق اكتشافها كما هو الحال فى حقول العراق التى يستخدم لتنميتها عقود الخدمة وسبق تناولها. أما التنقيب فى مناطق جديدة Wildcat فتحتاج لرءوس أموال مخاطرة وهذه تعتمد فى جانب كبير على التمويل الذاتى للشركات الكبرى، دولية كانت أم وطنية، كما يسهم أكثر من شركة فى المشروع الواحد تخفيفا للمخاطر. وإذ توضح وكالة الطاقة الدولية أن العالم بعد أن استهلك من النفط نحو 1.1 تريليون برميل، فإنه يحتاج لاستهلاك نحو 885 مليار برميل من الآن وحتى عام 2030، فهل يكفى النفط التقليدى لمواجهة تلك الاحتياجات؟ وكيف سيتحدد السعر مع توقع اقتراب النضوب الطبيعى الذى صار يمثل العامل الأقوى فى تحديده؟، وهو ما يعيدنا ثانية لمناقشة آراء الداعين لتبنى 75 دولارا كحد أعلى؟ بحسب ما أعلنته الوكالة وأشرنا إليه فى مقال سابق (26/2/2009)، فإن مصادر النفط التقليدية وغير التقليدية سوف تقصر بحلول 2020 عن مواجهة الطلب العالمى المتزايد، ومن ثم لا بد من البحث عن مصادر غير تقليدية وغير معروفة. وهذا مما يرجح أن التكلفة قد تتجاوز بحسب تقدير الوكالة ذاتها 110 دولار للبرميل بدولار ثابت القيمة عند 2008. وأيا ما كانت تلك البدائل فإنها لا تكفى لتغطية موقع النفط سواء من حيث الحجم أو تنوع الاستخدامات. من ناحية أخرى يحاول الداعون لتبنى سعر 75 دولارا، بالإضافة لما سبقت مناقشته ( مقالات بتاريخ 14 و23 و28/6/2009)، استخدام نظرية «الدخل الدائم» للاقتصادى الأمريكى ميلتون فريدمانMilton Friedman لاستخلاص أداة نظرية لتحديد سعر «مالى» للنفط فى المدى الطويل Long-term fiscal price. يرى فريدمان أن الفرد لا يعتمد فى تحديد اختياراته على حجم دخله الجارى وإنما على تقدير دخله الدائم المتوقع عبر المستقبل المنظور، وهو ما ينطبق أيضا على الحكومات. ومعنى ذلك أن الدخل الدائم لحكومة دولة نفطية يتحدد باستخدام معدل خصم (فائدة) لتقدير القيمة الحالية Present value للتدفقات المتوقعة لعوائد تصدير النفط المتوافقة Consistent مع نمط الإنتاج Production profile وأفق النضوب Depletion Horizon. بذلك يتحدد السعر «المالى» Fiscal للنفط فى المدى الطويل باعتباره دالة لمعدل الخصم، فيرتفع سعر النفط إذا انخفض معدل الخصم، والعكس صحيح. ذلك لأن ارتفاع معدل الخصم (أى الفائدة) من شأنه تحويل اتجاه المدخرات إلى الاستثمار فى الصكوك التى تدر فائدة مرتفعة وابتعادها عن الاستثمار لتوسيع القدرة الإنتاجية للنفط، وهو ما يؤدى إلى انخفاض قيمة الأصول النفطية، والعكس صحيح. وإذ يفترض أن الدولة النفطية سوف تتبنى معدلا منخفضا للخصم، خدمة لمصالحها فى المدى الطويل (وليكن 23% فى ظل الظروف الحالية)، فإن السعر المالى للنفط فى المدى الطويل لا يتجاوز 60-80 دولارا. ويستخلص من جماع آراء الداعين لتبنى سعر 75 دولارا باعتباره سعرا عادلا وواقعيا de facto إنه السعر الذى يقع عند نقطة التقاطع بين الخيارات الاستثمارية لشركات النفط العالمية، وبين الاحتياجات المالية لموازنة الحكومة فى الدولة النفطية، وهو ما يحظى بدعم السعودية ومساندة أوبك. ويرتبط بما تقدم مع اختلاف الزمن والظروف أن الشيخ زكى يمانى كان قد أشار فى ندوة نظمتها الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية فى بيروت، أكتوبر 2000، إلى أن سعر 15 دولارا يكفى السعودية لكى تدفع مرتبات موظفيها وتقوم بصيانة ما لديها، وإذا أردنا شيئا من النمو الاقتصادى والاستثمار الرأسمالى نحتاج سعرا أعلى.فهل أمريكا ستتركنا نتصرف كما نشاء؟ ولا يحتاج الأمر لجهد كبير للتدليل على أن مثل هذه المتغيرات (احتياجات الحكومة السعودية وتفضيلات الشركات العالمية) لا تمت بصلة لآليات السوق العالمية للنفط، وإلا لكانت قد حالت دون ارتفاع الأسعار خلال الفترة 2003-2008. كذلك تفتقد هذه المتغيرات المقحمة لتبرير سعر معين (75 دولارا) لقدرتها على تحديد القيمة الحقيقية للنفط والتى تعتمد على معايير موضوعية يسهل الاستدلال عليها، مما سنتناوله فى المقال المقبل. والأخطر من ذلك أن تلك المتغيرات الدخيلة تتجاهل اقتراب منحدر النضوب النهائى للنفط، وبذلك يخرج عامل الندرة والنضوب من معادلة تسعير النفط بينما هو حقيقة واقعة بشهادة خبراء عالميين (راجع عدد 26/2/2009). وبديهى أن تحديد سعر النفط على أساس رغبات الشركات العالمية واحتياجات موازنة الحكومة فى دولة نفطية، مع ربط السعر بمعدل فائدة افتراضى، يقع بعيدا عن مبادئ وأصول تسعير ثروة طبيعية ناضبة والتى يعتمد تسعيرها على آليات السوق وعلى ترشيد إنتاجها وتحديد عرضها بما يحافظ على قيمتها الحقيقية. وفى حالة النفط، الذى يمثل مع الغاز الطبيعى ثلثى الاستهلاك العالمى من الطاقة، ينبغى الحفاظ على احتياطيات المصدرين إلى أطول فترة ممكنة خدمة للبشرية التى لم تتوصل بعد إلى مصادر بديلة وكافية لتحل محلهما فى خليط الطاقة العالمية. وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا باستخدام جهاز الثمن لتحجيم الطلب. ويغير ذلك فإن الضغط الغربى سوف يزداد بغية استنزاف الباقى من النفط فى أقل فترة زمنية وبأدنى الأسعار. ولعل مما يؤكد هذا الضغط أن المخططات الغربية تسعى لدفع دول أوبك لزيادة معدل النضوب Outtake من 2% حاليا إلى نحو 4-6%. ويعرّف معدل النضوب بأنه مقياس نسبى لحجم الإنتاج السنوى مقسوما على حجم الاحتياطيات التى تم اكتشافها وتنميتها Developed reservesوهو ما يشير إلى العمر الإنتاجى لتلك الاحتياطيات. ومعنى استجابة أوبك لهذه الضغوط أن احتياطياتها المؤكدة التى يستغرق نضوبها 50 خمسين عاما باستخدام معدل نضوب 2% يمكن أن يتقلص عمرها الى 25 عاما برفع هذا المعدل إلى 4%، وهو الإطار الزمنى الذى تحتاجه الدول الصناعية الغربية للتوصل إلى بدائل للطاقة تغنيها عن النفط الذى سيكون قد غادرنا إلى الأبد على أى حال، ناهيك عما يصيب الحقول المرهقة بالإنتاج من أضرار جسيمة والدول النفطية بخسائر باهظة.