تنبأ باراك أوباما خلال حملته الانتخابية لولاية ثانية أن الجمهوريين سيصابون بالحمى إذا فاز فى الانتخابات. صدقت نبوءة أوباما إذ حدث فور إعلان فوزه أن تصرفت قيادات الحزب الجمهورى كما لو كانت مصابة بحمى شديدة، كان اهم عرض من أعراضها هياجا هائلا وغضبا عارما تركز أغلبه على زميلهم فى الحزب شاك هيجل الذى اختاره أوباما ليتولى منصب وزير الدفاع محل المستر بانيتا. ••• الواضح لبعض المتابعين هنا فى مصر والمؤكد هناك فى الولاياتالمتحدة هو أن قطاعا كبيرا من جماهير المحافظين وقياداتهم وبخاصة هؤلاء المنحدرين من أصول بيضاء وذوى الدخل الأعلى نسبيا قضى السنوات الأربع الأخيرة تعذبه فكرة أن رجلا أسود اللون مشكوكا فى هويته تقدميا فى ايديولوجيته حالما بإدخال تغييرات هيكلية فى النظام السياسى ، يتولى منصب رئيس الجمهورية الأمريكية. هذا الرجل لم يكتف بفترة رئاسية واحدة بل تجاسر وتصور أنه يستطيع الفوز بفترة ثانية، لذلك اجتمعت جهود الجمهوريين من أجل إحباط مسعاه مستنفرين جميع طاقاتهم. وقفوا ضد خطته زيادة الضرائب على الأغنياء. سلطوا عليه فوكس نيوز، إحدى أكبر محطاتهم الإعلامية لتقود أعنف هجوم شنه الإعلام الأمريكى على رئيس فى الحكم. ساندوا حملة نظمتها جماعة ضغط صناع السلاح وأشعلوا فتنة ضده بين حائزى الأسلحة. رصدوا أموالا هائلة لإحباط برامجه للرعاية الصحية والاجتماعية. شجعوا جماعة الضغط الصهيونية لتشن حملات إعلانية مدفوعة الأجر ضد سياساته الخارجية وترشيحاته للمناصب الكبرى. تمادوا فحاولوا الوقيعة بينه وبين الأمريكيين السود حين شاع الاتهام بأنه رغم لونه الأسود فإنه لم يحقق للفقراء أحلامهم فى حياة أفضل. ••• فاز أوباما بولاية ثانية وانتشرت على الفور التكهنات حول سياسات الفترة الثانية. وكالعادة خرجت البيانات والتصريحات شبه الرسمية تؤكد أن سياساته لن تتغير، ولكن غاب عن هذه التصريحات إضافة تحفظ له أهمية بالغة. يحدث كثيرا ألا يكون فى نية صانع السياسات تغييرها ، ولكنه يضطر إلى تغييرها إذا تغيرت بيئتها والظروف المحيطة بها. تتعدد الدلائل على أن المستقبل القريب سوف يشهد تغيرات فى بيئة ومكونات قضايا مهمة مما سيفرض على حكومة أوباما الاستعداد لها بسياسات جديدة. هناك مثلا حقيقة تزداد جلاء مع مرور الوقت وهى أن أمريكا تتحول إلى دولة مكتفية ذاتيا من ناحية حاجاتها من الطاقة. ولا تخفى انعكاسات هذا التغيير على سياسات أمريكا الداخلية والاقتصادية والخارجية وبخاصة فى الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. هناك أيضا، وإن بعيدا عند الأفق أو قبله بقليل، إشارات بأن أوروبا تبتعد، أو على الأقل ، ترد على ابتعاد أمريكا خلال فترة أوباما الأولى بابتعاد مقابل. هناك شرق أوسط مختلف جذريا عن الشرق الأوسط الذى تعرف عليه باراك حسين أوباما عندما زار القاهرة وألقى خطابه الشهير فى جامعتها. هناك أيضا أفريقيا التى تنذر مؤشرات صادرة عنها بأنها ستعود ساحة سباق دولى مكثف وميدانا تختبر فيه قوى التطرف الإسلامى صلابة أمريكا وحلفائها الأفارقة والأوروبيين ومدى استعدادهم للصمود فى حرب ربما أطول وأشد ضراوة من الحرب الأفغانية و حرب العتمة الدائرة بمنتهى القسوة فى اليمن. هذه التغيرات وغيرها ، الواقع منها والمحتمل، كافية لأن تفرض على أوباما تغيير بعض أوجه سياسته الخارجية. قرأ البعض منا أو استمع إلى «خطاب التتويج»، ليبحث فى فقراته ، بعيدا عن جمال اللغة التى يستعملها أوباما، عن مؤشرات لاختلاف أو أكثر فى النوايا والعقيدة والتوجهات. لم نجد ما يسترعى الانتباه سوى تأكيده بإصرار لافت نية أمريكا النأى بنفسها عن الصراعات العسكرية. جاءت هذه المرة بصياغة مختلفة إذ قال «إن العالم شاهد على شجاعتنا ونحن نحاول حل خلافاتنا مع الدول الأخرى سلميا، ليس لأننا سذج..». قال أيضا إن البدء بالعمل الدبلوماسى ضرورة لمنع تدهور الأحوال إلى الحد الذى يتطلب التدخل العسكرى». وبلهجة القائد الذى وعد ولم يخلف نطق بالعبارة التى ذهبت مثلا «لقد انتهى عقد الحروب». ••• جاء الخطاب يؤكد تكهنات حول مستقبل السياسات الخارجية الأمريكية، تصاعدت وتيرتها مع ترشيح جون كيرى لوزارة الخارجية وشاك هيجل لوزارة الدفاع ، وبعد أن اتضح أن الرأى سيستقر على خفض موازنة الدفاع الأمريكية. كان من بين التكهنات أن تغيرا سوف يطرأ على هياكل المؤسسة العسكرية الأمريكية، منها على سبيل المثال الاستعانة بأعداد غفيرة من النساء فى مهام قتالية، ومنها أيضا الاعتماد المتزايد على طائرات الدرون «بدون طيار» وعلى القوات الخاصة، وهى التغيرات التى يمكن أن تكون بداية الاستغناء عن قواعد عسكرية عديدة وتقليص حجم الوجود الأمريكى فى الخارج. ••• بالعودة إلى المبادئ العامة التى اهتم بذكرها أوباما وما يردده مساعدوه وما ينبئ به مرشحوه الجدد لأجهزة صنع السياسة ، أستطيع مثل كثيرين غيرى التنبؤ بأن الشرق الأوسط سيظل يحظى باهتمام إدارة أوباما الثانية، وربما أكثر من اهتمام الإدارة السابقة. يشجعنى ما طرأ من تغيرات على خريطة سياسات وتوازنات داخلية فى دول المنطقة. يشجعنى أيضا على التمسك بهذا التنبؤ خيبات الأمل المتعاقبة الناتجة عن تطورات ثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا وسوريا. ومع ذلك يبقى اعتقادى راسخا لا يتسرب اليه الشك فى أن إدارة أوباما لن تغير فى وقت قريب قناعتها بأن صعود «الإخوان المسلمين» فى الحياة السياسية للدول العربية يمثل رصيدا إيجابيا لأمن أمريكا ومصالحها فى «الشرق الأوسط الكبير» باعتبار أن الإخوان صاروا يجسدون الأمل الوحيد لكبح جماح جماعات التطرف الإسلامى وبخاصة الجماعات السلفية والجهادية ومنعها من الوصول إلى الحكم فى دول الربيع العربى وغيرها من الدول المرشحة للتغييرالسياسى المتدرج أو الثورى. يبقى مطروحا للنقاش فى واشنطن، كما فى لندن وبرلين وموسكو، ومنتظرا جواب السؤال المتعلق بالمدى الذى يمكن لدول الغرب أن تذهب إليه فى جهودها الساعية إلى إقناع قيادات القوى الليبرالية والتقدمية العربية تهدئة ثورتها ضد التيارات الدينية فى المنطقة وإعطاء الإخوان الفرصة اللازمة لتطويع التيارات الأشد تطرفا وسعى الجميع وبسرعة لتحقيق الاستقرار الداخلى. ••• أتوقع أيضا أن ينأى أوباما بواشنطن عن الدخول فى مواجهة حاسمة مع إسرائيل حول مسألة الدولة الفلسطينية المستقلة أو المستوطنات. لا أتصور أن الرجل الذى هو فى حاجة ماسة لدعم داخلى واسع من أجل الخروج بأمريكا من أزمتها الاقتصادية الخانقة مستعد أن يستهلك أرصدة سياسية غالية على موضوع يتعلق بالفلسطينيين أو بتصرفات إسرائيل فى المنطقة. يكفيه أن تحترم إسرائيل التزامها عدم إثارة مشكلات تزيد من فرص تدخلها العسكرى فى مناطق الجوار. لا أبالغ إن قلت إن قضية الديمقراطية والاستقرار فى الدول العربية وفى قطاعى غزة والضفة أهم عند حكومة أوباما من تفكيك المستوطنات أو تحقيق تسوية باهظة التكلفة خاصة وأن القضيتين ليستا على صدارة أجندة واهتمام القوى الإسلامية الحاكمة فى العالم العربى ممالك وأحزابا. أذكر بجلاء كيف انبهر أوباما بالمارد الذى خرج من القمقم فى الدول العربية ، وأعرف أن حرصه على بقاء هذا المارد خارج القمقم يتجاوز حرصه على تحقيق تسوية فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى. ••• تشهد السنوات القادمة وضع ترتيبات مرحلة «ما بعد الانسحاب الأمريكى من أفغانستان»، وفى تصورى أنها ستكون مرحلة مثيرة من الناحية النظرية والأكاديمية كما الناحية العملية، وبخاصة إذا صدق ما قيل عن إن إدارة أوباما بدأت بالفعل ترتيبات إقامة «هيئة شراكة» تتولى مسئولية أفغانستان بعد عام 2014، وقد رشحت إدارة أوباما كلا من الهند وباكستان والصين وإيران لعضويتها. ستكون المحاولة بالتأكيد جديرة بالمتابعة فالهند وباكستان عدوان لدودان وكثير من معاركهما تدور فوق الأرض الأفغانية. أما الصين فلم تبد حتى الآن حماسة كافية لترتيب أوضاع إقليمية لصالح الولاياتالمتحدة أو بايحاء منها . ولا تبدو إيران جاهزة للمشاركة فى أى عمل إقليمى إلا بعد أن تسويان ، هى وأمريكا ، قضية التسلح النووى. ••• كتب معلق أمريكى ، فى معرض تحليله للخطاب الرئاسى ، يصف أوباما بالشخصية الجدلية. رأى فيه الزعيم الذى جمع فى آن واحد بين البراجماتية والأيديولوجية بدليل تردده فى تقييد نفوذ رجال المال والأعمال المسئولين عن الأزمة فى النظام الرأسمالى مقابل تقدمية أفكاره وبعض سياساته الاجتماعية وموقفه من حقوق المرأة والمثليين، فضلا عن أنه يبدو أحيانا من الحمائم بدليل عدم تورطه فى حروب وتدخلات خارجية مكلفة وأحيانا أخرى يبدو من الصقور بدليل ضخامة عدد القتلى ضحايا غارات الطائرات بدون طيار فى باكستان واليمن والصومال. وأخيرا لا ننسى أن أوباما هو الرئيس الأسود الذى لم يتمكن خلال فترة السنوات الأربع الأولى من أن ينتقل بأمريكا إلى «عصر ما بعد العنصرية».