2 تخطئ كثيرا إذا ظننت أن كفاح المصريين من أجل الحرية والعدالة الإجتماعية والتقدم كان سينتهي بمجرد إقرار دستور يرضى عنه المصريون جميعا ويتوافقون عليه، فالتاريخ يعلمنا أنه ليس هناك ما هو أكثر من الفرص التي يمنحها الواقع بتعقيداته لصاحب السلطة لكي يشرع قوانين تمنحه الحق بأن يستبد بعد أن يلوي أعناق النصوص الدستورية لكي تحقق له ما يريد، حتى لو كانت واضحة وصريحة في حمايتها للحريات، فما بالك وهي ليست كذلك أصلا كما هو الحال لدينا. ستجد مصداقا لكل هذا وأنت تقرأ تاريخ الثورة الأمريكية كما يرويه المؤرخ والمفكر الأمريكي هوارد زن في كتابه الجليل (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة) الذي أجدد تقديري دائما لمترجمه شعبان مكاوي وناشره المشروع القومي للترجمة. بعضنا يعتقد أن الثورة الأمريكية حققت كمالا فشلنا في بلوغه، بينما زن يصفها في فصل من كتابه بأنها "نوع ما من الثورة" وهو يروي كيف خضع الكونجرس الأمريكي للغضب الشعبي المتصاعد على الدستور الأمريكي، فأصدر سلسلة من التعديلات عليه عُرفت بإسم "وثيقة الحقوق"، تضمن أن تكون الحكومة حارسة لحق الشعب في التعبير والنشر والعبادة والتجمهور والحق في محاكمة عادلة والشعور بالأمن ضد التدخل الرسمي، وفي حين بدا ذلك حلا نهائيا لكل مخاوف الأمريكيين من تقييد حرياتهم، فإنه بعد أن أصبح التعديل الأول جزءا من الدستور بسبع سنوات، أصدر الكونجرس نفسه قانونا يحد بوضوح شديد من حرية التعبير، هو قانون التحريض على العصيان الذي صدر عام 1798 أثناء ولاية جون آدمز والذي نص على أنه يصير مجرما كل من يقول أو يكتب شيئا مزيفا أو خطرا أو فضائحيا ضد الحكومة أو الكونجرس أو الرئيس بهدف تشويه سمعتهم أو إثارة الكراهية ضده، ورغم أن هذا القانون قد بدا منتهكا للتعديل الأول الدستوري فقد تم تطبيقه حيث سجن عشرة أمريكيين لتفوههم بعبارات ضد الحكومة، ورأى جميع أعضاء المحكمة الدستورية العليا أن ذلك من صميم الدستور، مستندين إلى تخريجات قانونية تقضي بأن الحكومة وإن لم تستطع أن تمارس وضع قيود مسبقة كمنع متحدث من الحديث أو كتاب من النشر فبإمكانها أن تعاقب المتحدث أو الكاتب قانونيا فيما بعد، وبالتالي إتضح أن التعديل الأول الذي فرح به الناس لم يكن له قيمة في أرض الواقع، وأصبحوا بحاجة إلى مواصلة الكفاح من أجل تأمين حرياتهم.
ما يؤكده لك هوارد زن وهو يروي مئات الوقائع المدهشة عن نضال الأحرار الأمريكيين عبر عشرات السنين لإنتزاع حقوق العمال والنساء والسود والهنود الحمر والفقراء والمعدمين، أن من يتصور أن الدساتير ستكون كافية لتحقيق أحلام الشعوب فهو واهم، فالنصوص رائعة الصياغة الموجودة في الدستور الأمريكي بتعديلاته لم يكن لها صدى على أرض الواقع عندما تولى أمر تفسيرها محكمة دستورية تنحاز للصفوة الحاكمة، "فكيف يمكن لها أن تكون مستقلة وأعضاؤها يختارهم الرئيس الأمريكي بنفسه ويصدق مجلس الشيوخ على ذلك الإختيار، كيف تتصف بالحياد بين الأغنياء والفقراء بينما غالبية أعضاءها محامون أثرياء سابقون وعادة ما ينتمون إلى الطبقات العليا".
لقد إستطاع ترزية القوانين وأصحاب المصالح عبر السنين المتعاقبة أن يحولوا النصوص الدستورية البراقة إلى أضحوكة، فقد قاموا كما يرصد زن بتكريس المدارس والكنائس والثقافة الشعبية لإقناع كل من يمتلك سببا للإنتفاض والثورة بأن كل شيئ على ما يرام، وأنه لابد من قبول الأمور كما هي، وأن الفقر ليس إلا فشلا شخصيا يمكن أن تتغلب عليه بالحظ الإستثنائي، وتم توظيف آلة القمع بالقانون لتأديب كل من يعارض سياسات تكريس الفقر وتركيز المصالح في أيدي طبقة بعينها. كل هذا هو ما جعل هنري ديفيد ثورو صاحب نشرة "العصيان المدني" التي أصبحت تحتل مكانة خاصة في وجدان الأمريكيين منذ إصدارها في 1846 يصرخ قائلا "ليس من التضليل أن نزرع في الناس إحترام القانون بالقدر الذي نزرع فيهم إحترام الحق، لم يجعل القانون الناس في أي يوم من الأيام أكثر عدلا، بل إنه عن طريق إحترام القانون، يتحول الناس يوميا حتى من يملكون النوايا الطيبة إلى أدوات للظلم"، هذه العبارات التي أثارت الإستنكار والسخط وجلبت لصاحبها العقوبة والأذى، لم تمت بموت صاحبها بل ساهمت هي وكلمات وأفعال ودماء ودموع كثيرة في زيادة الوعي الشعبي بأهمية اليقظة المستمرة ضد صياعة المتلاعبين بالصياغات الدستورية لتحقيق مصالح من يحكم، وهي معركة لم ولن تنته أبدا، وإذا كانت هناك مكاسب قد تحققت للمواطن الأمريكي العادي في أي مجال من مجالات حياته فهي لم تكن بفضل المبرراتية والمثبطاتية والمطبلاتية وهواة تكسير مقاديف الشعوب الذين يعتبرون ماتقدمه الدساتير دائما غاية المراد من رب العباد، بل كان بفضل الساخطين والمتمردين والرافضين والمطالبين بألا يصبح للأحلام سقف أبدا.
لست أرجو مما نشرته بالأمس واليوم إلا أن ألفت إنتباهك إلى كذب الكائنات البيضوإحباطية التي تحاول الترويج لدعوى فشل الثورة المصرية مستغلة غياب المعرفة التاريخية بالإشارة الدائمة إلى نموذج الثورة الأمريكية بوصفه نموذجا يستحيل علينا الوصول إليه، وهو ما ستكتشف لو قرأت وبحثت عدم صحته، فنحن حققنا الكثير، لكن لازال أمامنا الكثير لكي نحققه لو تذكرنا دائما أنه بالكفاح وحده تشتفي الأرواح ويتحقق الإنشراح ونرتاح نحن من اللجوء الدائم إلى إنشراح أيضا، لكن دعنا نتحدث عن ذلك غدا بإذن الله.