ربما تبدو ضرورة استقالة رئيس تحرير صحيفة تاراف التركية التى تعانى ضائقة مالية وتناضل من أجل بيع ما يزيد على خمسين ألف نسخة بعد خلافه مع صاحبها خبرا رتيبا لا يستحق النشر سوى فى صفحة داخلية. ولكن فى إطار المشهد الكئيب للصحافة التركية حيث الرقابة الذاتية والخنوع أمام الحكومة، هى القاعدة، تصدرت الأنباء الأخيرة عن انسحاب العديد من الكتاب البارزين فى الصحيفة عناوين الأخبار: لقد كانت صحيفة تاراف صوتا مستقلا وشجاعا نادرا. غير أن الأنباء الكئيبة عن أفول الصحيفة سابقة لأوانها؛ فهى فى الواقع تجاهد بطاقم عمل منخفض العدد. غير أن هذا كله ترك لدى شعورا يشبه شعور الطفل يشهد طلاق والديه الأليم. فقد كنت أساهم بلا أجر بكتابة عمود أسبوعى حول الأحداث الجارية، مدفوعا بمبادئ الجريدة والولاء لأصدقاء، استقالوا الآن. وكنت أشهد بفخر معركة تاراف مع المصاعب. أما الآن فقد تلاشى التفاؤل.
●●●
وقد ولدت صحيفة تاراف القوية قبل خمس سنوات، كتحالف غير رسمى بين القوى التى تم قمعها فى إطار تركيا القديمة المناهضة للمؤسسة الحاكمة، وكانت تأمل فى تشكيل تركيا الجديدة. فتبنت منهجا يساريا ليبراليا، ودافعت عن حقوق الأكراد، والأقليات الدينية غير المسلمة فى تركيا. وجعلتها انتقاداتها العنيدة للسلطة مختلفة عن معظم الصحف التركية، التى نادرا ما تتحدى القوى الحاكمة، حتى تضمن تعزيز المصالح المالية لملاكها.
وكان بصر أرسلان، مالك تاراف، يملك سلسلة من المكتبات الناجحة، قد قرر، من دون إعلان، ترك تجديد محتوى الصحيفة لمدير التحرير أحمد ألتان، وهو صاحب أكثر الروايات مبيعا، وكاتب عموده معروف بإثارة قلق الحرس القديم فى تركيا، وإلى ياسمين كونجار، نائبة ألتان، وكانت تعمل من قبل مراسلة من واشنطن لوسائل إعلام تركية، وتتمتع بمهارات حادة فى الصحافة الاستقصائية. وربما لم تكن تاراف تحت قيادتهما صحيفة عظيمة طول الوقت، لكنها استطاعت القيام ببعض الأمور العظيمة.
●●●
فبدلا من إعادة نشر البلاغات العسكرية والعزف على النغمة القومية، نشرت موضوعات لم تتطرق إليها الصحف المنافسة. ففى 2008، بعدما أسفر قيام المسلحين الأكراد بهجوم ليلى على الحدود مع العراق، عن قتل 17 جنديا، وضعت يديها على صور عسكرية بالقمر الصناعى تحمل بصمة الوقت، كشفت عن أن المخابرات العسكرية التركية كان لديها قبل وقت كاف تحذير من أن أعدادا كبيرة من حزب العمال الكردستانى تتحرك إلى الموقع. وفى بلد يعتبر «الإساءة إلى سمعة إحدى مؤسسات الدولة» تهمة جنائية، يتطلب اتهام الجنرالات بعدم الكفاءة تماما، الكثير من الشجاعة.
ولم يكن هذا العمل الشجاع الوحيد الذى أقدمت عليه تاراف. لكن تاريخ الصحيفة لم يخل بطبيعة الحال من بعض المثالب. فقد اضطرت تاراف إلى التراجع عن نشر خبر يقول إن محطة تليفزيونية تسببت فى تحطم طائرة مروحية، نجم عن الاتصال المتواصل بتليفون محمول يخص سياسيا يمينيا فى 2009. (وقد تبين أن الاتصالات أجريت بعد الحادث). فهل كانت محقة عندما نشرت أن حقيبة كاملة من الوثائق المسربة، وأقراص الكمبيوتر المدمجة، تركها مصدر مجهول على عتبة باب الصحيفة؟ وقد وفر ذلك الأساس المادى لمحاكمة «سليدجهامر»، التى حوكم فيه نحو 300 شخص، معظمهم من كبار القادة العسكريين، بتهمة التآمر للإطاحة بالحكم. ووفقا لما قاله فريق الدفاع، كان كثير من الأدلة مزورا، وعلى نحو غير محكم.
غير أن السلطات كانت تنظر إلى صحيفة تاراف التى أبلغت بالأمر اختياريا فى ريبة. وتزايد غضب الصحيفة إزاء ما اعتبرته استعداد حكومة رجب طيب أردوغان للتضحية بالإصلاح على مذبح المصالح السياسية. وهاجم ألتان، فى عموده اليومى الحاد، أردوغان واصفا إياه بأنه «بلطجى أجوف» مستعد لتبنى سياسيات متطرفة لتعزيز طموحاته الخاصة. وكسب رئيس الوزراء دعوى تشهير رفعها ضد ألتان بسبب وصفه له بأنه «متغطرس، جاهل، ولا مبالى». وفى عام 2008، أمر جهاز الاستخبارات بالتنصت على تليفونات ألتان وكوجار، وتم إبلاغ رئيس الوزراء.
●●●
وفى نهاية الأمر، تضاءل تسامح مالك الصحيفة. فبعد أن أصر على أن فريق ألتان غير خطاب الجريدة، ساءت العلاقات بينهما. وفى عمود وداع عاطفى كتبه ألتان فى 15 ديسمبر، لم يقل سوى إنه يستقيل ليعود إلى رواياته. ولكنك تستطيع أن تقرأ بين السطور أن التحالف الذى كان وراء الصحيفة من أجل تحقيق تركيا أقل استبدادا، قد تم حله الآن.
لقد غيرت تاراف وجه تركيا إلى الأفضل بموازنة ضعيفة، لمجرد أنها حاولت القيام بما هو صحيح. فما الذى كان سيصبح عليه وجه تركيا اليوم، لو كانت شقيقات تاراف من وسائل الإعلام الأكثر ثراء، فعلت نفس الشىء؟