فى عام 1961، غادر الرئيس دوايت أيزنهاور منصبه وهو يحذر من تنامى سلطة المجمع الصناعى العسكرى فى حياة الأمريكيين. وعلى الرغم من أن معظم الناس يعرفون المصطلح الذى أشاعه الرئيس، إلا أنه لا يكاد يكون هناك من يتذكر حجته. فقد دعا أيزنهاور، فى خطبة الوداع إلى تحسين التوازن بين الشئون العسكرية والمحلية فى اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا. وقد كان يشعر بالقلق من أن يؤدى سعى صناعة الدفاع وراء الأرباح إلى تشويه السياسة الخارجية، وأن يتسبب المزيد من سيطرة الدولة على القطاع الخاص إلى الركود الاقتصادى. وحذر من أن الاستعدادات التى لا تنتهى للحرب لا تتناسب مع تاريخ البلاد. وحذر من أن الحرب وصناعة الحرب تحتل مساحة كبيرة من حياة الأمة، بما لذلك من تداعيات خطيرة على سلامتنا الروحية.
●●●
غير أن المجمع الصناعى العسكرى لم ينشأ بالطريقة التى تصورها ايزنهاور بالضبط. حيث تنفق الولاياتالمتحدة مبالغ هائلة على الدفاع أكثر من 700 مليار دولار العام الماضى، وهو ما يقرب من نصف جميع النفقات العسكرية فى العالم ولكن من حيث اقتصادنا الكلى، فقد انخفض باطراد إلى أقل من 5 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى بدلا من 14٪ فى عام 1953. ولم تنتج البحوث المتعلقة بالدفاع دولة عسكرية جامدة؛ لكنها فى الواقع، حققت مجموعة من التقنيات المفيدة، من الإنترنت إلى الطاقة النووية المدنية إلى نظام الملاحة جى بى إس. وتمتلك الولاياتالمتحدة صناعة أسلحة هائلة، لكنها لم تعرقل فرص العمل والنمو الاقتصادى. وفى الواقع، فإن الحجة المفضلة لدى الكونجرس ضد خفض الانفاق العسكرى، أن التخفيضات سوف يترتب عليها فقدان للوظائف.
كما لم يؤثر القطاع الخاص على السياسة الخارجية على النحو الذى حذر منه ايزنهاور. لقد صارت السياسة الخارجية تعتمد بشكل متزايد على الحلول العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن مر وقت طويل على احتلال مشاة البحرية المتكرر لهايتى ونيكاراجوا وجمهورية الدومينيكان فى أوائل القرن العشرين، عندما كانت المصالح التجارية تؤثر على التحرك العسكرى. وكانت فكرة أن الحرب على العراق عام 2003 كانت تهدف على نحوما إلى خفض سحرى لأسعار البترول، أقل الانتقادات مصداقية من بين كافة الانتقادات التى وجهت لهذه الحرب. على الرغم من أنه من الصحيح أن المرتزقة والمقاولين استغلوا حروب العقد الماضى، يتم اليوم اتخاذ القرارات الصعبة حول استخدام القوة العسكرية، على نفس النحو الذى كان يحدث أيام أيزنهاور: يصدرها الرئيس، باستشارة هيئة الأركان المشتركة ومجلس الأمن القومى، ومن ثم يقرها الكونجرس. ولا يحق التصويت للشركات، حتى الآن على الأقل.
●●●
وتعمل المؤسسة العسكرية مثل جميع المؤسسات على تدعيم صورتها العلنية، وكان هذا أحد عناصر العسكرة فحسب. ويأتى معظم الخطاب السياسى عن المسائل العسكرية من المدنيين، الذين هم أكثر صراحة من العسكر أنفسهم فى الدعوة ل «دعم قواتنا». ولا شأن لذلك بأن الكونجرس يضم اليوم عددا أقل من قدامى المحاربين منه فى أى وقت سابق منذ الحرب العالمية الثانية. ويعتبر أولئك الذين سبق لهم الخدمة العسكرية أقل تعبيرا عن الثناء الصريح على الجيش، لأنه، مثل كل المؤسسات، يعانى من إحباطاته وإخفاقاته الخاصة. ولكن بالنسبة لغيرقدامى المحاربين بما فى ذلك نحو أربعة أخماس أعضاء الكونجرس فهذا لا يمثل سوى التملق الواضح والمباشر. وتعتبر التكلفة السياسية، لأى خيار آخر مرتفعة جدا.
ولإثبات هذه الظاهرة، يحتاج المرء إلى أن ينظر إلى أبعد من الضجة المستمرة حول التخفيضات التلقائية وتنقسم بالتساوى بين البنتاجون والمصروفات غير الأمنية التى يتوقع أن تدخل حيز التنفيذ فى يناير، اذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن الديون والعجز. وكما يكشف بوب وودوارد فى كتابه الأخير، طرحت إدارة أوباما العام الماضى خطة تشمل تخفيض نفقات الدفاع على الحدود، لأنه كان من المعتقد أن خفض نفقات الدفاع لا يمكن تصوره لأن من شأنه أن يجعل التسوية لا مفر منها.
●●●
لكن بعد انهيار اتفاق الميزانية الكبرى، فيما يرجع على نحو كبير إلى مقاومة الجمهوريين فى مجلس النواب، صور كل من الحزبين تخفيض النفقات باعتباره هجوما على القوات (على الرغم من أن هناك الأحكام التى تحمى رواتب وأجور العسكريين). ولم يكن لحقيقة أن التخفيض يدمر أيضا التعليم والصحة وبرامج للأطفال، نفس التأثير.
وقد فهم ايزنهاور المفاضلة بين السلاح والطعام. «إن كل بندقية تصنع وكل سفينة حربية تدشن وكل صاروخ يطلق، يعنى، فى التحليل النهائى، سرقة من أولئك الذين يعانون الجوع ولا يتم تغذيتهم، أولئك الذين يعانون البرد وليس لديهم ما يلبسونه»، وحذر فى وقت مبكر من رئاسته فى عام 1953 من «إن تكلفة أحد منفذى التفجيرات الثقيلة الحديثة تساوى: إنشاء مدرسة راقية حديثة فى أكثر من 30 مدينة. أو إنشاء محطتين للطاقة الكهربائية، تخدم كل منها بلدة يبلغ عدد سكانها 60 ألف شخص. أو إنشاء اثنين من المستشفيات المجهزة تجهيزا كاملا. أو رصف طريق سريه بطول 50 ميلا. فنحن ندفع لشراء طائرة مقاتلة واحدة ما يوازى ثمن نصف مليون جوال من القمح. وندفع لشراء مدمرة واحدة ما يساوى تكلفة إسكان أكثر من ثمانية آلاف شخص. «اليوم، لا يكاد يكون فى الحياة العامة سوى قلة ممن هم على استعداد للتشكيك فى الجيش أو نفقاته، ويواجه هؤلاء من رون بول التحررى اليسارى إلى دينيس كوسينيتش بالرفض باعتبارهم غير واقعيين.
وتعتبر دعوة كل من الرئيس أوباما وميت رومنى إلى زيادة ميزانية الدفاع (طالب رومنى بزيادتها عما طلبته المؤسسة العسكرية) دليلا آخر على أن الجيش «المسار الثالث» للسياسة الأمريكية. وفى هذا العالم الغريب، حيث لا يمكن لمن لا يمتلكون مؤهلات عسكرية، إقرار تخفيض نفقات الدفاع، اضطر الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة، الأدميرال مايك مولن، إلى توضيح أن حجم الدين المتضخم يعتبر أكبر تهديد للأمن القومى.
●●●
وسرعان ما أصبح الدعم غير المحدود لكل ما يتعلق بالجيش، أمرا طبيعيا بالنسبة شبابنا. ولا يكاد أى من طلابى، فى الأكاديمية البحرية، يتذكر الوقت الذى لم تكن بلدهم فيه فى حالة حرب. ويعتقد الجميع تقريبا أنه من العادى أن نسمع صوت هجمات الطائرات بدون طيار فى اليمن أو هجمات طالبان فى أفغانستان. كما لم يكن الكشف مؤخرا عن قواعد مكافحة الإرهاب فى أفريقيا مفاجئا، ولا الاحتفالات العسكرية التى هى الآن سمة منتظمة فى الاحداث الرياضية. ويصبح ما تبقى من المظاهر التى لم تختبر فى النهاية غير مرئية، ونتيجة لذلك، فلا يكاد يكون من بين الأمريكيين اليوم، من يرى أهمية كافية فى مجموعة كاملة من الأنشطة العنيفة التى تتولاها الحكومة باسمهم.
فلو كان أيزنهاور حيا، لشعر بالفزع من ديوننا، ومستوى العجز واستمرار توسيع المجمع الصناعى العسكرى. ولا شك انه سيكون حساسا من «الاختراق الغادر لعقولنا» من قبل شركات ألعاب الفيديو وشبكات التليفزيون، وسائل الإعلام والنقاد الحزبيين. فمع القليل من المعرفة بما يسميه أيزنهاور «الحزن المتبقى من الحرب» و«العذاب الخاص بساحة المعركة» قاموا بتحويل العمل الشاق الخاص بالأمن القومى إلى نشاط فج فى السياسة والترفيه.
2012 كل الحقوق محفوظة لشركة النيويورك تايمز لمبيعات الخدمات الصحفية. يحظر نشر هذه المادة او إذاعتها او توزيعها باى صورة من الصور .