تعد العلاقات المدنية العسكرية فى دول الغرب الديمقراطية هى المثال الذى ينظر له الجميع على أنه الحالة الأمثل لما ينبغى أن تكون عليه تلك العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة المدنية.ففى مقولة لريتشارد كون( بينما يمكن أن تكون هناك سيطرة مدنية بدون ديموقراطية فإن الديموقراطية لا يمكن أن توجد بدون سيطرة مدنية). تقوم فلسلفة العلاقة نظريا على السيطرة الكاملة للسلطة المدنية. مثال على ذلك إقالة الرئيس أوباما لقائد القوات الأمريكية المتواجدة فى أفغانستان فى عام 2010 . وبالتالى فالمؤسسة العسكرية فى الديموقراطيات الغربية تابعة للسلطة السياسية. وقد جاء أحد أهم التعريفات بطبيعة تلك العلاقة فى كتاب الجندى والدولة(soldier and state) لصمويل هنتنجتون، و تبعا لرؤيته فيجب أن تقوم علاقة المؤسسة العسكرية على التبعية الصحيحة للسلطة السياسية المدنية، كمؤسسة عسكرية محترفة تأتمر بالسياسات المحددة من قبل السلطات المدنية وهذا هو الأساس لكثير من التحليلات السياسية. و يعتمد تعريف هنجتون على أربعة نقاط أساسية، أولاً:أن العسكريين والمدنيين يشكلون جماعتين مختلفتين بالإضافة إلى وجود تمايزات فرعية داخل كل منهما، ثانياً:أن العلاقات المدنية العسكرية يغلب عليها الصراع، ثالثا: أن النمط الأمثل لتلك العلاقة يقوم على إحداث توازن بين الدور المدنى والعسكرى فى ظل وجود سيطرة مدنية، رابعاً:أن التحول فى طبيعة العلاقة المدنية العسكرية واتخاذه لأنماط مختلفة يرتبط بدرجة فاعلية السيطرة المدنية. وهو ما يعتقده ريتشارد كون أيضا فهو يقول (السيطرة المدنية ليست حقيقة لكنها عملية) بمعنى أنها تتغير بحسب قوة القيادة المدنية. ولتبسيط مفهوم تلك العلاقة نصورها على أنها علاقة ثلاثية (الجيش، السلطة المدنية، المجتمع) يقوم المجتمع بانتخاب السلطة المدنية المسئولة أمامه وتكون لها السيطرة المطلقة على الجيش. ويكون الدور الرئيسى لهذا الجيش هو حماية الدولة والمجتمع ويقوم المجتمع بتمويل ذلك الجيش عبر الضرائب كما يزوده بالقوة البشرية اللازمة لتنفيذ مهامه. وإذا أخذنا الولاياتالمتحدة كنموذج للدراسة لكونها القوة العسكرية الكبرى فى العالم والنموذج الديموقراطى الامثل في نظر الكثيرين.والسؤال المهم المتعلق بالحالة الأمريكية هو حقيقة استقلالية القرار السياسى الأمريكى وخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وتأثير المؤسسة العسكرية عليه. التصور بأن العلاقة تسير فى اتجاه واحد فقط من سلطة سياسية لها اليد العليا المطلقة إلى مؤسسة عسكرية تابعة هو تصور رومانسى أكثر منه واقعى، ويهمل واقع المشهد الأمريكى. ويعد ما يعرف ب(المركب العسكرى الصناعى)مفتاح فهم تلك العلاقة المتداخلة، وهو عبارة عن شبكة العلاقات السياسية والمالية بين السياسيين والجيش الأمريكى والقاعدة الصناعية العسكرية. وأول من استخدم مصطلح المركب العسكرى الصناعى هو الرئيس ايزنهاور فى خطابه الوداعى عام 1961 حين قال: (فى المجالس الحكومية علينا أن نحترس من اكتساب المركب العسكرى الصناعى للمزيد من النفوذ سواء أكان ذلك بقصد أو بدون قصد. فإمكانية الصعود الخطير لمراكز القوى فى غير محلها موجودة ودائمة. يجب ألا ندع لهذا المركب الفرصة فى التأثير على حرياتنا وديموقراطيتنا. يجب ألا نأخذ أى شئ كمسلم به، فمع الحذر والدراية الكاملة يمكننا ادماج تلك الآلة العسكرية الضخمة مع أهدافنا وطرقنا السلمية بحيث يزدهر الأمن والحرية معا). أما عن كيفية تأثير المركب العسكرى الصناعى فى السياسية الأمريكية، فهناك عدة طرق منها مثلاً ما يطلق عليه (علاقة الباب الدوار)، فعند تقاعد الضباط عن الخدمة العسكرية يلتحقون بالعمل كمستشارين لشركات السلاح التى ترتبط بعقود بوزارة الدفاع الأمريكية ومنها يتم تعينهم فى المناصب المدنية الهامة مثل وزارة الدفاع. وبالتالى تتوغل شبكة العلاقات الخاصة بهم داخل جهاز صنع القرار الأمريكى. أما الطريقة الأخرى والأكثر تأثيرا فهى (علاقة التأثير والمنفعة الدائرية)، وهى تقوم فى الأساس على زيادة ميزانية الجيش الأمريكى مما يؤدى بالتبعية إلى زيادة الإنفاق، وينتج عنه ازدياد العقود الخاصة مع شركات وموردى السلاح ومن ثم زيادة الأرباح الخاصة بتلك الشركات، ثم تقوم هذه الشركات بتكوين جماعات ضغط أو اختراق جماعات ضغط موجودة بالأساس وتتدخل لترجيح ودعم مرشحى الكونجرس والرئاسة (جورج بوش الابن كمثال)، وبالتالى يحدث لتلك الشركات التأثير المنشود على أروقة صنع القرار ويتم التصديق على زيادة الإنفاق العسكرى وهكذا تستمر تلك العلاقة الدائرية فى الدوران. يعتبر ديك تشينى نائب رئيس الجمهورية الأمريكى السابق مثالاً حياً لطريقة التأثير التبادلية بين السلطة السياسية المنتخبة من جهة والمركب العسكرى الصناعى من جهة أخرى،وعلاقة الباب الدوار تنطبق عليه. حيث كانت حياته السياسية ما بين عمله فى البيت الأبيض ثم انتخابه عدة مرات فى مجلس النواب، إلى أن اختاره بوش الأب وزيراً للدفاع فى عام 1989، واستمر فى هذا المنصب حتى 1993 مرورا بحرب الخليج. واستمراراً لعلاقة الباب الدوار بين السياسة والمركب العسكرى الصناعي،عمل تشينى بين عامى 1995 - 2000 رئيسا لشركة هاليبرتون أحد أكبر شركات البترول والطاقة فى العالم التى ترتبط بعلاقات وثيقة بالمركب العسكرى الصناعى الأمريكى والنفوذ الأمريكى للسيطرة على مصادر الطاقة فى العالم. ثم تم انتخابه كنائب للرئيس فى فترة ولاية جورج بوش الابن. ويعد تشينى أيضا مثالاً صارخاً لعلاقة التأثير والمنفعة الدائرية السابق ذكرها.فعن طريق الدعم المالي والضغط السياسي عبر جماعات الضغط لتأييد فوز بوش الابن يصل بوش وتشينى إلى رأس السلطة السياسية. ومع حربي أفغانستان والعراق تتصاعد وتيرة الإنفاق العسكرى إلى درجة غير مسبوقة مما يصب بدوره فى مصلحة شركات المركب العسكرى الصناعى من استثمارات ضخمة وأرباح هائلة. ووفقاً لتقرير لوكالة أنباء الشرق الأوسط الج، و مع إعادة انتخاب بوش للمرة الثانية، فقد ارتفعت أسهم شركة هاليبرتون بنسية 4.3 % وشركة أكسون موبيل بنسبة 1.7 % ، وذلك بسبب تعهد المنافس جون كيرى بمراجعة عقود الإنفاق فى حالة فوزه.وتجدر الإشارة أن الميزانية الأساسية لوزارة الدفاع عند تولى بوش كانت فى حدود 300 بليون دولار وصلت فى نهاية فترة ولايته الثانية عام 2008 إلى حوالى 480 بليون دولار. وبالنظر للعلاقة المدنية العسكرية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا من زاوية عسكرة المناصب السياسية والمدنية، تجدر الإشارة أن فى أمريكا بعض رؤساء الجمهورية المنتخبين الذين عملوا كعسكريين سابقين مثل جورج واشنطون، جرانت،ايزنهاور (وهو أول من حذر من ازدياد نفوذ المركب العسكرى الصناعى وتهديده للحريات والديموقراطية)، بالإضافة إلى العديد ممن قاموا بأداء الخدمة العسكرية مثل بوش الأب، نكسون، ترومان وغيرهم وكانت أخر الأسماء العسكرية الشهيرة على الساحة هو المرشح الرئاسى السابق جون ماكين، لكن النسبة الأكبر من الرؤساء الأمريكيين كانت إما من أعضاء كونجرس سابقين أو حكام سابقين للولايات. وتعد أكثر المناصب المدنية التى ضمت عسكريين سابقين هو منصب مدير المخابرات المركزية والذى شهد تولية عسكرين له على فترات متباعدة. وكذلك هناك وزير الخارجية الأمريكى الأسبق كولن باول والذى تدرج فى الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة جنرال. وفى فرنسا فإن مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة هو الرئيس الجنرال ديجول.الذى حارب فى الحرب العالمية الأولى والثانية وقاد حركة التحرر من الاحتلال النازى لفرنسا وتم انتخابه مرتين. ومن الملاحظ أن فى الفترة ما بعد 1975لم يصل إلى منصب القيادة فى البلاد الأوروبية أشخاص من خلفيات عسكرية باستثناء الجنرال جاروزلسكى فى بولندا 1981 - 1990. أما بالنسبة للمناصب الحكومية والإدارية، فطبقا لأحدث الإحصائيات الأمريكية فإن حوالى 29 % من التعيينات فى الحكومة الفيدرالية ذهبت للمحاربين القدماء،وذلك طبقا لمبادرة من إدارة الرئيس أوباما لاستيعاب أكبر قدر من المحاربين القدماء والاستفادة من قدراتهم وإدماجهم فى الحياة المدنية وخصوصاً مع ازدياد أعدادهم بسبب حرب العراق. وهو ما حذر منه ايزنهاور أيضا سابقاً من أن الإبقاء على آلة عسكرية ضخمة سيؤدى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى التأثير على الحكومة والحريات والديموقراطية. و أخيراًن فإن طبيعة التأثير بين المؤسسة العسكرية والسلطة المدنية فى البلدان الديموقراطية تختلف عنها فى دول حديثة التحول الديموقراطى أو الدول الشمولية. فمع الاعتراف بصعوبة الفصل الكامل بين المؤسسة العسكرية والسياسيات الخارجية لتلك الدول الديموقراطية، إلا أن الاحترافية والتبعية التامة للسلطة المدنية أمر مسلم به كمبدأ ديموقراطى أصيل، لكن تبقى شبكة المصالح السياسية والاقتصادية كمدخل خفى يصعب التحكم فيه أو حتى غلقه تماما.