ليس من المستغرب بالمرة ترحيب الحكومة التى تدعمها جماعة الإخوان وحزبها السياسى بالاستعانة بقروض صندوق النقد الدولى لدعم الاقتصاد المصرى المتردى، فالجماعة وعلى لسان أبرز رموزها الاقتصاديان (حسن مالك وخيرت الشاطر) أكدت مرارا أنها لا تتحفظ مطلقا على السياسات الاقتصادية اليمينية التى كان ينتهجها رجال حكومات مبارك، وتحفظها فقط كان على شكل إدارة المنظومة وما شابها من فساد (الاختلاف إجرائى وليس فلسفيا). وبالتالى فالاستعانة بصندوق النقد الدولى يتماشى تماما مع البرنامج والرؤية الاقتصادية لحزب الحرية والعدالة والتى تتماشى بالتبعية مع رؤية الأمريكى فى وجود نظام رأسمالى عالمى مكون من الطبقات الرأسمالية المستقلة (الخاصة والدولة) تندمج فى سوق واحدة تسيطر عليها قوة احتكارية مكونة من شركات عابرة للقارات بوكلائها الموجودين فى شركات الفرانشيز والتوكيلات ونخبة اقتصادية «حاكمة» محلية تسهل وتدعم من هذه السياسات فى مقابل عمولات محدودة، أو فرص استثمار أكبر تزيد مع تزواج هذه النخبة بالسلطة (نخبة اقتصادية قديمة «أحمد عز ومحمد أبوالعينين» يتم استبدالها بنخبة جديدة «خيرت الشاطر وحسن مالك»). هنا يمكن تفسير مباركة الإدارة الأمريكية (مباركة ممزوجة بغطاء ومساندة) بخطوة الإطاحة بطنطاوى وعنان؛ وهى نفسها ذات السياسة التى كسب بها حزب العدالة والتنمية التركى بالقاضية مجموعة «عسكر أتاتورك» بعد التطمينات الكثيرة التى وعد بها «أردوغان» الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى بعدم انتهاجه سياسيات اقتصادية خارج دائرة «السوق الحرة».
•••
الولاياتالمتحدة يقينا لا يهمها كثيرا الأبعاد الأيدلوجية للمجموعة التى تحكم الدولة المصرية بقدر ما يهمها أن تضمن هذه المجموعة الحاكمة المكتسبات السياسية والاقتصادية لاتفاقية كامب ديفيد بالنسبة للأمريكى، والتى تتعلق بأمرين واضحين هما، القبول بسلام بارد مع «إسرائيل» يحفظ للأخيرة وجود آمن كرأس حربة للمشروع الأمريكى فى المنطقة، وهذا الأمر حدوثه مرتبط ببقاء مصر داخل منظومة «محور الاعتدال» التى تقوم بعملية «إطفاء» دائم لأى حركة ممانعة أو مسار مناوئ لمشروع الهيمنة فى المنطقة (مبارك مع السعودية كانا يؤديان هذه المهمة على أكمل وجه، والسعودية الآن تقود هذا المشهد للأمريكى بشكل يجعل السعودية أهم حليف استراتيجى سياسى واقتصادى للولايات المتحدة).
والمحور الآخر متعلق بالحفاظ على مصر داخل منظومة الاقتصاد العالمى والتى تحفظ للأمريكى بحكم العلاقات الاستراتيجية فوائد اقتصادية من بينها سيطرة الشركات الأمريكية على استثمارات كبيرة فى قطاع النفط والغاز، وضمانة أن تظل شركات السلاح الأمريكية المورِّد الوحيد للسلاح للجيش المصرى، وسريان المال الغربى من وإلى الداخل المصرى عن طريق استثمارات ضخمة فى القطاع العام الذى تم (وسيتم) خصخصته.
وبالرؤية الاقتصادية التى تتبناها الجماعة وملحقها الحزبى لن تستطيع أن تقوم بأية تغييرات جذرية تؤسس لدولة مصرية ذات «سيادة»، وتنهى على حالة التبعية الاقتصادية والسياسية التى كرسَّت لها «كامب ديفيد»، بل سيتم رفع شعار «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» (عنوان أهم كتاب لمنظرها الأشهر سيد قطب) دائما وأبدا، لكن فى ذات الوقت سيعمل الإخوان على التعويل على سياسات اقتصادية تنحاز كلية لاقتصاد السوق والدعم اللامتناهى لسياسات الخصخصة على حساب انتهاج سياسات اقتصادية تدعم الطبقات الفقيرة والمهمشة، وتعمل على بناء نموذج اقتصادى مستقل يقلل من قبضة الأمريكى على القرار السيادى للدولة المصرية.
فى هذه الحالة هناك صعوبة فى أن تلعب مصر أى دور حقيقى فى محيطها العربى والإقليمى اللهم إلا على مستوى جزئى يمكن أن يتبلور فى صورة «خطاب ممانعة» إعلامى، ونقل مكتب حماس السياسى للقاهرة كما كان الحال مع دولة الأردن وملكها الهاشمى صديق الإسرائيليين الحميم، وزيادة الوساطة المصرية والجولات المكوكية الشهيرة، وسينتهى الدور للحفاظ على القاعدة الجماهيرية للإخوان بسد احتياجات كفائية (أغذية كهرباء غاز) لقطاع «غزة» يخفف الضغط على حكومة «حماس» بدون العمل على تحريك نوعى أو راديكالى ما فى الملف الفلسطينى، اختصارا سيعمل الإخوان على أن تلبس اتفاقية كامب ديفيد ثوبا إسلاميا!
•••
نأتى لمسألة القروض وصندوق النقد الدولى، يتحدث الباحث الاقتصادى إلهامى الميرغنى عن فوائد صندوق البنك الدولى فيقول: «فوائد الديون التى تدفعها مصر 133.6 مليار جنيه وهى تمثل 25.7% من مصروفات الموازنة وهى تزيد على الفوائد فى العام الماضى بمبلغ 27.3 مليار جنيه وستزيد أكثر بالتبعية بالقرض الجديد».
يمكننا أن نفهم بالطبع أن توجيه 25% من مصروفات الموازنة للفوائد يعنى تقليص الإنفاق على التعليم والصحة والثقافة والخدمات والإسكان والمرافق، وأن جواز ختم مرور هذه القروض لمصر مرهونة بالاشتراطات المعقدة المعروفة لصندوق النقد، وهى اشتراطات خاصة بتعديل قوانين لدعم المستثمرين الأجانب والمصريين، ودعم قطار الخصخصة ليشمل حتى مرافق الدولة العامة، ورفع الدعم عن الخبز والطاقة بالنسبة للشرائح السفلى (مع ثبات دعم الطاقة بالطبع بالنسبة للشرائح الأعلى، وبالطبع تذهب لجيوب مصنعى الأسمنت والحديد والسماد والبتروكيمياويات بشكل أساسى).
التاريخ يعيد نفسه، فالجماعة «المؤمنة» تسير فى نفس طريق الرئيس» المؤمن، فالكل يتذكر أن انتفاضة 18 و19 يناير 1977 والتى أطلق عليها السادات «انتفاضة الحرامية» كانت نتاج رفض شعبى لتداعيات السياسات التى أملاها صندوق النقد الدولى على صاحب وملهم» اتفاقية كامب ديفيد»، وهى السياسات التى ألزمت حكومة السادات برفع الدعم عن 25 سلعة أساسية، واستمرت الانتفاضة حتى تم سحب قرار رفع الأسعار، فخفَّت حدة الانتفاضة، بينما استمرت بعض الجماهير فى القتال طوال ليلة 20 يناير رغم نزول الجيش إلى الشوارع وفرض حظر التجول.
السادات الذى اتهم اليسار حينها بأنهم وراء « الانتفاضة» التى كاد أن يهرب بسببها إلى إيران، وشن عليهم بسببها حربا شعواء، يتمثل الآن عصام العريان القيادى الإخوان الأبرز نفس الدور ويشن حربا استباقية على اليسار قبل حتى أن تقول السيدة المبجلة كريستين لاجارد كلمتها بالموافقة، وقبل أن يفكر حتى كمال خليل برفع ميكروفونه أمام نقابة الصحفيين تنديدا بالاتفاقية.