دائما ما أتذكر كلمة سمعتها فى المدرج عن تعريف المهندس والفرق بينه وبين أى شخص آخر وهو «أن المهندس يبنى ما يبنيه الآخرون ولكن فى أقل وقت وبأقل التكاليف وبأجمل تفاصيل» وكان ما يستوقفنى هو أن المهندس ليس متفردا وحده بالبناء ولكن ما يميزه حقا هو القدرة على التوفير وحسن استخدام الموارد. ولذلك أقتبس من المعمارى العالمى ميس فان دروه مقولته الشهيرة إن «الأقل أكثر» بمعنى أنه كلما استخدمنا مواد أقل لإنشاء نفس المبنى لكان ذلك أكثر غنى وأكثر إبداعا. فالمهم هو البراعة فى الإنشاء بحيث لو نزعت منه جزء لاختل ولو أضفت له شىء لكان حملا ثقيلا.
فالمطلوب هو حسن التصميم فلا يكون ضعيفا فيتهدم ولا ذو قوة مفرطة فنستهلك مواد زائدة عن الحاجة. ويحث ديننا على هذه الوسطية وعلى محاربة الإسراف، ففى القرآن: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما»، وعلى وجوب وضع الشىء فى موضعه والاقتصاد «وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَّحْسُورا».
***
واللافت للنظر أن الكثير من المهندسين لا يلتفتون الى مبدأ الاقتصاد ويكتفون بجعل المبنى آمنا فقط فيلجئون إلى استخدام قطاعات خرسانية سميكة قبيحة تزيد من الأوزان ولا تجعل المبنى يهيم فى الفضاء فيكثرون من استخدام الأسمنت والحديد. فترى أساسات ضخمة لإحدى المنشآت ومن النظر إليها يمكن أن تقول إنها سوف ترتفع لعنان السماء فتكتشف أنها صممت لمبنى من دورين. وقد أكدت دراسة حديثة أنه يمكن توفير 10 20% من قيمة تكلفة الإنشاءات لو تمت إعاده التصميم على أسس اقتصادية. وقد تم القيام بإعادة تصميم الكثير من المشاريع مما وفر لأصحابها الآلاف من الجنيهات.
وقد تتعجب صديقى القارئ أن الذى ندعو له ليس هو ابتكار حلول جديدة بل هو مجرد الالتزام بما جاء فى الكود المصرى ولا نضع شيئا أكثر أو أقل. فالذى يحدث أن الكثير من المشاريع التى تنفذ الآن فى مصر تعانى من تخمة فى القطاعات الخرسانية والذى نريده هو اقتطاع هذه الدهون الزائدة للوصول إلى جسد صحى، طبقا للقول الشهير «فحيث تكفى ثلاثة أرطال فخمسة هى سمنة زائدة». ويثور التساؤل: لماذا يقوم المهندس بعمل تصميم زائد على الحاجة؟
لعل من أبرز هذه الأسباب هى الرغبة فى عمل تصميم سريع والقيام باختصار الحسابات بشكل مبسط مخل يؤدى فى النهاية إلى هذه الزيادة غير المنطقية. وقد تكون هى الرغبة فى «الاستسهال وهات من الآخر» وقد تكون مصحوبة فى بعض الأحيان أيضا بعدم المعرفة أو عدم القدرة على الحساب.
ويبدو أن هذا مفهوم التوفير واضح عند الغرب لدرجة أنه أثناء دراستى فى الخارج كان إحدى المهام الدراسية هى محاولة عمل نموذج لكوبرى صغير من الخشب يفوز فيها من يصل إلى أخف وزن مستخدم. وللأسف اختفت قيمة التوفير وأصبحت أسمع من طلابنا أثناء الدراسة أنه «طالما مش حتقع يبقى ليه أتعب نفسى فى إعادة التصميم».
وتطبيق الكلام السابق ممكن على مشروع القومى للإسكان المزمع إقامته فى السنين الخمس القادمة، فلو تمكنا من توفير 100 جنيه فقط لكل وحدة عن طريق التصميم الجيد نكون قد وفرنا 100 مليون جنيه، بينما لو وفرنا ألف جنيه لكل وحدة نكون قد وفرنا مليار جنيه «ففى الإعادة إفادة». فالشعب يريد حلولا موفرة فى وقت أصبحنا نحتاج الى كل جنيه نتيجة لوصول احتياطى النقد الأجنبى إلى 19 مليار دولار بانخفاض 45% عن بداية الثورة وانخفاض المال السوقى للبورصة 50% وشبه توقف للاستثمارات الأجنبية.
***
الحل هو دعوة وعودة لاستخدام الحلول الاقتصادية الموفرة لمواد البناء وعدم الاكتفاء بالحلول التصميمية السريعة الآمنة فقط، فنحن نريد مبانى جميلة رشيقة، خفيفة فى الإنشاء، وخفيفة على الميزانية أيضا. ليصبح المبنى فى هذه الحالة صديقا للبيئة لأنه يستخدم ما يحتاجه فقط ويترك باقى الموارد للأجيال القادمة.
فلكل إنسان منا دائرة يجد فيها راحته ولكن الحلول الناجحة تحتاج منا إلى جهد لكسر هذه الدائرة واقتناص الحلول الممتازة.
وكما يقول الكاتب الشهير جيم كولنز أن «الجيد هو عدو الممتاز». فالتركيز على الحلول الجيدة فقط يجعل هذا من طبيعتنا ويمنعنا فى الكثير من الأحيان من إظهار الحلول الرائعة والممتازة. فقل لا للحلول العادية المكلفة وقل نعم للحلول الرائعة الموفرة.