النغمة التى لا تتوقف داخل أروقة الكونجرس طوال الوقت هى تهديد مصر بقطع المعونة الأمريكية عنها، لأنها لا تسير على الصراط الأمريكى المستقيم. لكن السياسيين الأمريكيين المطلعين على بواطن الأمور يذهبون إلى هناك ويقولون لهؤلاء النواب ومعظمهم موالون لإسرائيل: «إن مصالح أمريكا تحتم عليها تقديم المساعدات لمصر وبالتالى فالمطلوب هو عدم التصعيد مع القاهرة». آخر هؤلاء كان مارتن ديمبسى رئيس الأركان الأمريكية قبل أيام حينما ذكر نفس هذه المعانى فى الكونجرس وأضاف عليها أيضا أن توتر العلاقات مع مصر سيحرم أمريكا من مزايا كثيرة منها تحليق الطائرات الأمريكية فى السماوات المصرية.
ذلك فى واشنطن، أما فى «العاصمة الأمريكية الثانية أو الأولى مكرر» فإن صحيفة الجيروزاليم بوست الإسرائيلية عنونت فى اليوم التالى بطلب أوباما عدم تخفيض المعونة لمصر بالكلمات التالية: «أوباما ينقذ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل».
أحد الدروس الرئيسية المستفادة من الأزمة بين القاهرةوواشنطن ورغم نهايتها البائسة من حيث طريقة الاخراج هى أن مبارك سواء كان يقصد أو لا، عمدا أو جهلا باع وطنه للأمريكان والإسرائيليين «ببلاش»، وأنه كان يمكنه حتى بمنطق المصالح المادية المجردة أن يحصل لبلده على الكثير من المزايا والمساعدات والمعونات مقابل ما قدمه من خدمات جليلة لأمريكا ولإسرائيل، لكنه لم يفعل.
معروف أن المساعدات الأمريكية المشروطة تقدم إلى مصر منذ عام 1978 بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد فى سبتمبر من نفس العام وقبل أشهر قليلة من توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل فى مارس 1979.
هى ليست بندا فى المعاهدة كما يعتقد البعض لكن هذه المساعدات التى تقلصت فى جانبها الاقتصادى هى رشوة أمريكية كى تستمر حكوماتنا فى المعاهدة.
نعم استعدنا سيناء بشروط قاسية نعانى منها حتى الآن، واستفادت إسرائيل استراتيجيا بصورة لا يمكن تخيلها، منها انها استراحت من الجبهة المصرية الأصعب وسحبت معظم قواتها من هذه الجبهة التى صارت هادئة وتفرغت للعربدة فى كل المنطقة خصوصا جنوب لبنان والجولان وقمع الفلسطينيين.
يكفى أن نعرف أن عدم وجود المعاهدة كان يحتم على إسرائيل نشر المزيد من القوات على جبهتها الجنوبية، وإجراء المزيد من المناورات واستدعاء الاحتياط.. وبالحساب المجرد فإن عدم فعل ذلك يعنى توفير المليارات لها، مقابل مبلغ زهيد يتم دفعه للمصريين ومن جيب الأب الأمريكى الحنون!!.
باختصار مبارك حول مصر إلى أفضل منفذ للاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، ومن دون ثمن يدخل خزانة الدولة، بل ذهبت العمولات إلى حسين سالم وأمثاله. ترك المنظمات ومراكز البحوث الغربية تعيث فسادا كما تشاء الأمر الذى جعلهم يعتقدون أن كل ذلك مكاسب لا يمكن التنازل عنها.
المعنى الذى يمكن الاستفادة منه بعد الأزمة الأخيرة أن وجود نظام حكم وطنى فى مصر، يعنى توفير المليارات، ويعنى أيضا أنه حتى فى حالة استمرار المعاهدة مع الأعداء التاريخيين فإن ذلك ينبغى ألا يكون بالمجان.
فى يد مصر أوراق تفاوض وضغط كثيرة، ويمكننا أن نستعيد بعضا مما فقدناه بسبب الخيانات وسوء الإدارة منقطع النظير فى الماضى.
ليكن شعارنا الدائم أن الأساس هو كرامتنا وسيادتنا ومصالحنا الوطنية.
لا نطلب من حكومتنا قطع العلاقات مع امريكا اليوم، او محاربة إسرائيل غدا. فقط نلفت نظرها، إذا كنتم غير قادرين على مواجهة الاعداء، فعلى الأقل لا تبيعوا مجانا او «ببلاش». وإذا نويتم ان تلعبوا سياسة فالرجاء ألا يكون ذلك بالطريقة الكارثية التى تمت ليلة الأربعاء الماضى.