ذا كانت الأمور الآنية قد عجزت عن استكتابنا، إلا فى سياق الضرورات، فان بعض الأمور والقضايا التى تتجاوز الأبعاد الآنية، إلى ما قبل وما بعد الراهن، تدفعنا دفعا إلى التأمل بها وفيها، وتناولها فى سياق خيارات العقل. وعلى الرغم من اشكاليات أدوات العقل، وما تحمله من نسقية فى التحليل والاستنتاجات، وما فيها من مؤثِّرات انفعالية وعاطفية جراء «الانتماءات والهويات»، فإنه من الممكن، باعتقادنا، إعمال العقل وتفعيل أدواته بما يتجاوز العقل نفسه. بمعنى أنه يمكن تقليص مساحة المؤثرات الجانبية أو الهامشية، كالعاطفة والانفعال والموروث والمنقول، وحتى الانتماء أو الهوية أو الذاكرة، فى التعامل مع شئون تتطلب منا أقصى درجات الجرأة والعمق والتجرد، فى سبيل صناعة المستقبل عبر فهم الماضى وإدراك الحاضر.
انطلاقة واضحة وبسيطة وإن بدت مركبة، أضف اليها أن «الاعتدال» فى التفكير هو خيانة للعقل، وتبرير الضعيف لغياب إرادته.. أى أننا يمكن أن نتصرف ونسلك باعتدال، لكن يجب أن نفكر بمنطق العقل ومعاييره التى لا حدود لها، ومن ثم التحرك وفقا لمقتضيات الصراع والواقع، على أن نسعى دائما لتوسيع حيز «الممكن»، وأن نبقى دوما نسعى نحو «المستحيل».
●●●
واستنادا إلى تلك الذهنية، أتناول هنا والآن، قضية نكبة شعبنا الفلسطينى، فى ذكرى مرور 64 عاما على «بداياتها»، من جوانب تجعل فعل الكتابة عملا ديونيسيا مجيدا، من خلال رسائل سريعة عابرة للجغرافيا والزمان وحدود الكلمات، ولا نهائية..
وأشير هنا، أيضا، أننى لا أرغب بالتعرض للموضوع من باب الاستعراض المعرفى والمعلوماتى، الذى بات ممجوجا بتفاصيله الدراماتيكية وخطوطه السيزيفية المكونة للمشهد، سيما أن المعرفة المعلوماتية لا تصنع بالضرورة تفكيرا، إذا لم تتدفق فى حركة نهر التأمل والتفكر والنقد والعمل،لأن ركود المعرفة يحوِّلها إلى مجرد مستنقع آسن!
ثَمة مواقف يمكن الاتفاق حولها، وقراءات يمكن الموافقة عليها.. فقد نتفق أن النكبة حدث مؤسِّس للقضية الفلسطينية، وإزالة آثار وإسقاطات هذا «الحدث» شرط ضرورى، يترتب عليه تحقيق أى شكل من أشكال السلام العادل أو النسبى، كحلِّ لهذه القضية.. معنى ذلك أن فعل العودة إلى الوطن يجسِّد ذلك الشرط الضرورى للسلام أو أبرز تجلياته، وليس التمسَّك بمجرد «حق العودة»، فالمشروع الأساس هو العودة كحق وليس أحقية العودة...
ويمكننا أن نتفق، أننا أمام هذه الذكرى من النكبة، وليس على النكبة أو للنكبة. أى أن حقيقة ديمومة النكبة واستمراريتها لا ريب فيها.. وبهذا المعنى فإن النكبة ترافق الشعب الفلسطينى، ليس فى ماضيه فحسب، وليس كذاكرة جماعية فقط، إنما فى حاضره أيضا. وهذا الأمر لا يتبدَّى كواقع فى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس حصرا. فإذا كانت النكبة تعنى الكارثة أو التطهير العرقى بتعبير أدق، فإن ذلك «المشروع الصهيونى» متواصل ويجرى تنفيذه يوميا فى النقب والمدن الساحلية، وفى المثلث والجليل، دون أدنى شك، وهذا «المشروع» يتمظهر بأشكال وأدوات وتشريعات متعددة الأطياف، لكنها تصب فى النهاية فى المشروع ذاته، وللغايات عينها. فالنكبة إذن، تعنى كارثة وجودية وطنية وقومية للشعب العربى الفلسطينى، بدأت بتطهير عرقى فَج عام 1948، لكنها لم تتوقف عند ذلك التاريخ، فى إطار هذا التعريف.
والتطهير العرقى هنا يعنى إرتكاب جرائم القتل والإبادة والتدمير أو التهجير القسرى من الوطن..
وجوهر المشروع المتواصل هو: تهويد الأرض المكان، وأسرلَة الفلسطينى الإنسان.
ومحاولة هذه الأسرلَة تتأتى عبر المنهاج التدريسى الرسمى، الذى يعتمد التشويه والتعتيم والتجهيل والعدمية القومية حتى لو كان معربا، كما تتأتى عبر وسائل خطيرة متعددة أخرى، مثل «الخدمة المدنية».
●●●
وفى هذا المفصل من القول، دعونا نتفق على ما قد نختلف عليه أو حوله، أو ما قد نتباين فى توصيفه وفى استشرافه.. ودعونا نعطى الأشياء معناها وقيمتها، بعيدا عن الانفعال، ودون الإفراط فى التشاؤم الكافكوى، الذى يعتبر أكثر تفاؤلا من الواقعية الخضوعية، أو العقلانية الوهمية.
فليس ما ندعيه هنا إمعانا فى جلد الذات الجماعية، أو تذويتا للهزيمة والضعف، إنما إصرارا على التمرد العقلى والإرادى على واقع تريدنا شروطه أن نراوح على حالنا.
إن كارثة الشعب الفلسطينى بدأت ما قبل عام 1948، لكن ما حدث من تطهير عرقى جماعى هو الأكبر فى تلك السنة يسمى جِزافا بالنكبة.. ولابد من الاشارة هنا إلى قدرتنا «غير الطبيعية» فى تقبل الأشياء والمصطلحات والمسميات المنقولة والموروثة على ما هى، دون التمعن فيها وتفكيكها عند الحاجة، وإعادتها إلى جذورها المؤسسة. وما أقصده هنا أبعد من المعنى اللغوى والفيللوجى للكلمات والمصطلحات، فنوعية استخدام المفاهيم تدلل على العقلية والطريقة التى نفكّر ونسلك بموجبها.
فقد كان من أوائل وأبرز من أطلقوا اسم النكبة، على تلك الكارثة، المؤرخ والمفكر القومى العلمانى قسطنطين زريق، كما جاء فى كتابه معنى النكبة.
لم يعمل عقل زريق جيدا فى هذه الحالة، أى فى إطلاق تسمية النكبة، ومن ثم ترسيخها فى الذهنية العربية كما جاء فى كتابه الآخر «معنى النكبة مجددا».
وبالرغم من أن مضمون الكتاب المذكور عقلى ونقدى، خصوصا للذات الجماعية، فإن التسمية حملت من المخاطر والكارثية ما لا يحتمله العقل، وما لا يتناغم مع بعض مضامين الكتاب.
يضاف إلى ذلك أن النكبة بمعناها الحقيقى والجذرى، فكريا وسياسيا، تَحمل فى طياتها إعفاء الفاعل والجانى من تَحمل المسئولية وتَبِعاتها، وبالتالى التحرر من عبء الإدانة وما يترتب عليها، وهو الأمر الأخطر.
كما أن التسمية تعفى، ضمنا، الضحية من المسئولية أيضا وتخرج الذات الجماعية من حقيقة الفعل الارادى واللإرادى الممهد، ثقافيا وسياسيا ومجتمعيا، لما حدث عام 1948، وهذا الأمر لا يقل خطورة إذا ما أردنا فعلا إيقاف نزيف «النكبة»!
●●●
إذن، علينا إعادة فتح ملف النكبة جديا، من حيث التسمية ودلالاتها، ككارثة وكجريمة تطهير عرقى، ومن حيث العلاقات السببية بين الذاتى والموضوعى، وعدم التردد فى قراءة وفهم واستيعاب العوامل الداخلية للحدث، تلك العوامل التى مازالت بجوهرها، لا بشكلها، ماثلة فينا وأمامنا ومن حولنا.
فغياب العقل فى الوعى، وأُفول الإرادة فى العمل يشكلان العنصرين الأساسيين، وليسا الوحيدين، فى تشكيل الوعى الجمعى، الذى لا يرتقى إلى مستوى الصراع او التحديات.
ولا يجوز أن نرهن الحاضر والمستقبل فى زنزانة الماضى، حتى لو كان هذا الماضى زاهيا، فكم بالأحرى عندما يكون نكبويا. كما أن الماضى ليس مادة معرفية وحدثية مجردة، إنما مادة للإدراك وطاقة لشحن الحاضر نحو المستقبل.
وفى هذا السياق، لابد من بعض الإشارات السريعة إلى عدد من القضايا المرتبطة بالموضوع.
فلم يجر التوقف مليا عند إحدى أهم المحطات التاريخية للجماهير العربية الفلسطينية، الباقية فى وطنها، عندما أخرجت الخطاب الجماعى لرواية النكبة وحق العودة من قُمقم الوعى، حين أحيت للمرة الاولى الذكرى الخمسين للنكبة عام 1998، عبر مسيرة العودة فى قرية صفورية الجليلية المهجرة، وأفَرجت بذلك عن الرواية وعن المصطلح.
وفى الجانب الراهن من الحالة «النكبوية» المتواصلة، فإن الشعوب والأمم التى تقرر أن السلام هو خيارها الاستراتيجى والوحيد، ليس فى السياق الإسرائيلى حصرا، فإنها تدعو ضمنا إلى الانتحار الجماعى دون أن تفقه أبجديات الحياة وديناميكية التطور ومعنى الوجود.
وفى نهاية تلك الإشارات العاجلة، حاليا، التى يتطلب كل منها وقفة منفصلة ومتَّصلة، أرغب فى التأكيد على النتيجة أن الحتمية التاريخية وهم فى غياب إعمال العقل وتفعيل الإرادة المؤثرة فى صناعة التاريخ والفعل الإنسانى!
حين يكون الفكر خارج إدراك الضرورات، يفقد مبررات وجوده واستمراريته، والفكر الذى لا يهدم لا يعرف البناء، وما قصدته هنا هو محاولة للبناء.