هل تصبح تونس بولندا العرب؟ الأمور الكبيرة تبدأ صغيرة. ففى بولندا، أدى طرد فالنتينوفيتش، العاملة فى بناء السفن، من عملها إلى إضرابات عن العمل، وإلى تشكيل حركة التضامن الشعبية، التى بدأت مسيرة تفكيك الإمبراطورية السوفييتية. وذات مرة، أخبرتنى فالنتينوفيتش التى توفيت فى تحطم طائرة العام الماضى أن كل ما كانوا يسعون إليه «دخل أفضل، تحسين ظروف العمل، ونقابة عمالية حرة، وعودتى إلى عملى». وكان كل ما أراده محمد بوعزيزى وظيفة، وبعض سبل لكسب قوت يومه. بيد أنه وجد نفسه مثل العديد من الجامعيين التونسيين عاطلا، بينما تنعم طغمة الرئيس المخلوع الآن، بثروات البلاد، وتدلل نفسها مع الحيتان الكبار. وعندما أغلقت الشرطة كشك الخضار غير الرسمى الذى يمتلكه بوعزيزى فى وسط مدينة سيدى بوزيد، قتل نفسه. فأشعلت تضحيته بنفسه قبل شهر، انتفاضة عربية. والآن، فر زين عابدين بن على ديكتاتور تونس طوال 23 عاما إلى منبع الحكم المطلق فى المنطقة، بفضل وسيلة تواصل اجتماعى جديدة، وسخط من الطراز القديم. فقد هب المتظاهرون الذين يتواصلون عبر الفيس بوك، وأيقظهم ما نشره موقع ويكيليكس عن انغماس أسرة بن على فيما يشبه حياة الإمبراطور الرومانى كاليجولا، ليحطموا دولة أمن أقامها طاغية عربى آخر. ويعتبر خلع حاكم عربى عبر ثورة شعبية أمرا جديدا، سبب بالفعل تداعيات من عمان إلى القاهرة، ومن الخليج إلى طرابلس الغرب، وسوف يتسبب فى المزيد، أما خلع حاكم عبر غزو أمريكى (كما حدث فى العراق) فلم يكن لينجح، حيث لن يصبح أبدا مصدر فخر عربى، بينما يمكن أن تنجح انتفاضة من الداخل. وقد طال انتظار هذا الحدث الدال، الذى لم تتضح نتائجه بعد. حيث فقدت الأنظمة العربية والعديد منها حليف للولايات المتحدة الاتصال مع شباب بلدانها. كما أثبتت أنظمتهم الفاسدة، والمتحجرة، والقمعية، وما فيها من محسوبية، عدم إدراكها للصحوة التى أثارتها الفضائيات التليفزيونية، وصفحات الفيس بوك، وتويتر، ولقطات الفيديو والمدونات على الشبكة العنكبوتية. ولم تبد هذه الأنظمة مهارة إلا فى إثارة السخرية من «الانتخابات» التى تجريها دوريا، ورعاية صعود التشدد الإسلامى بين السكان الذين لا يجدون ملاذا لهم إلا فى الدين. وتسببت فى إصابة بلدانها بالشلل مقابل الحفاظ على «استقرارها»؛ معتمدة على استعدادها لبث الرعب والتعذيب. وأصبح هؤلاء العرب المتشبثون بالمنصب، المحتضرون كتماثيل الشمع فى متحف مدام توسو، فى سبيلهم للتغيير، كأنظمة قديمة فى عام 2011. وكانت مسئولية الولاياتالمتحدة عن هذا الفشل العربى كبيرة. فقد فضلت أمريكا المستبد المستقر مقابل الخطر الإسلامى على الديمقراطية (على الرغم من حقيقة أن العلاج الوحيد لوهم الإسلاموية السياسية الجذاب هو مسئولية الحكومة). ومن الضرورى الآن أن تساند إدارة أوباما والاتحاد الأوروبى القوى الديمقراطية التونسية. وعلى الرغم من أنه ليس واضحا حتى الآن ما هى هذه القوى فى حركة المد التونسى، فإن أوباما أظهر بداية طيبة أفضل كثيرا من استجابته البطيئة للانتفاضة الإيرانية عام 2009، وأفضل كثيرا من التردد الفرنسى عندما أثنى على نضال التونسيين «الشجاع والدائب» من أجل الحصول على حقوقهم. وعلى أمريكا وحلفائها، خاصة فرنسا، بذل قصارى الجهد لضمان ألا تؤول هذه الشجاعة إلى استبداد مكرر جديد. وينبغى رفض أى حل أقل من إجراء انتخابات حرة نزيهة تنظمها حكومة وحدة وطنية. وأهم ما يحتاجه العالم العربى هو حكم يتميز بالمساءلة، والشفافية، والحداثة، من النوع الذى يشجع المسئولية الشخصية. وفى الشهر الماضى، كتبت عقب زيارة لبيروت عمودا أطلقت فيه تعبير «العقل العربى الأسير» على التكلفة النفسية للقمع فى المنطقة: عادة إلقاء المسئولية على الآخرين، وتصور المؤامرة فى كل مكان، والخوف الذى يشل القدرة على التفكير أو العمل. ولعل تونس تكون الفصل الأول فى تحرير العقل العربى. وسوف يتطلب ذلك من الغرب التخلى عن التفكير المريض. فإما أن تكون ديمقراطيا أولا. وإجراء انتخابات حرة فى تونس يتطلب رفع الحظر عن الأحزاب الإسلامية. ويتطلب التعامل مع الشرق الأوسط الاعتراف بأن استسهال إطلاق التسميات الإرهابية على حركات واسعة مثل حزب الله هزيمة للذات، وهو أمر غير ملائم. فقد كان من المستحيل تحقيق السلام فى أيرلندا الشمالية، إذا كانت علاقات الشين فين بالمقاومة المسلحة مثلت حاجزا يمنع التفاوض معها. وقد أثبتت المعايير الغربية المزدوجة لمصلحة الاستقرار العربى أنها تؤدى إلى التشدد. وعلى الغرب أن يقابل الشجاعة التونسية ببعض الشجاعة الغربية؛ فتثبيت الأسر الحاكمة على عروشها ليس الرد على الاضطراب العربى. كما أن الديمقراطية ليست طريقا أحادى الاتجاه. وإنما تسير فى اتجاهين، وليس انتزاعا نهائيا للسلطة. وقد خان الإسلام السياسى فى طهران رايته للتحرر، عندما استبدل بقمع علمانى فى عهد الشاه قمعا ثيوقراطيا. وأثبتت إيران أنها أكثر فاعلية من جيرانها العرب، لأن الجمهورية الإسلامية شعرت أحيانا بالتزامها العمل وفق وصف «الجمهورية» فى اسمها، وإن كان ذلك فى ظل قائد أعلى غير منتخب. ويجب أن تلتزم الأحزاب الإسلامية بالديمقراطية، ولا تستغلها من أجل تحقيق غايات استبدادية. لقد مرت تسع سنوات بين طرد فالنتينوفيتش وسقوط حائط برلين؛ وانتحار بوعزيزى يؤكد أن العمر الافتراضى للمستبدين العرب يمكن ألا يزيد على ذلك. فتونس الصغيرة صارت دعوة واضحة لصحوة إقليمية.