تخلصت تونس المحررة من وزارة الإعلام وهى فى الحقيقة وزارة الرقابة. ويوحى مشهد الهدوء الذى يواجهك فى المطار، أنها استغنت أيضا تقريبا عن معظم القيود على الزيارات السريعة. وهذه الأيام مترعة بالنشوة فى الدولة الديمقراطية الضعيفة البازغة فى العالم العربى. قبل 54 عاما، ولدت هنا «جمهورية مستقلة». ومنذ ذلك الحين لم تشهد سوى رئيسين، كلاهما سيطر على البلاد بقبضة حديدية، ولم يتركها أى منهما طواعية. ومن ثم يمكن تفهم حالة الدوار التى أصابت التونسيين عندما وجدوا أنفسهم من دون الرجل القوى، يتمتعون بحرية التعبير. وخلال عشر دقائق انتقلت من المطار إلى وسط المدينة. ووقفت الدبابات عند مدخل طريق بورقيبة (الذى يطلق عليه شانزليزيه تونس) حيث كانت عدة مئات من المتظاهرين قد تجمعت لمهاجمة حزب الديكتاتور المخلوع حزب التجمع الدستورى الديمقراطى، الذى هو ليس دستوريا ولا ديمقراطيا ومطالبة هذا الحزب ذى التسمية الخاطئة بالابتعاد عن الحكومة. وتحدث معى اثنان من معلمى المدارس الثانوية، أحدهما يدرس اللغة الفرنسية والآخر الإنجليزية، وكانت رسالتهما واحدة: على اللصوص أن يرحلوا، فالدماء لم تنزف كى نتحمل نفس الوزراء. وعلا شعار يستخدم عبارة فرنسية ضد الحزب المكروه «خبز وماء، والتجمع لا!». وكان الجو هادئا، فى حين يقف أفراد الشرطة حاملى الهراوات يتابعون من بعيد، بيد أن التوترات السياسية حادة. وتسعى السلطات المؤقتة، برئاسة محمد الغنوشى المحتفظ بمنصبه، لاكتساب مصداقية متعهدة «بتغيير نظيف» وإجراء تحقيقات قى الثروة الهائلة التى جمعتها أسرة بن على. وأبدت الشرطة ضبطا جديدا للنفس، كما تراجع حظر التجول، وتعمل الصحافة فى حرية، بينما انهمك فريق الغنوشى، فيما هو معتاد من اندفاع ما بعد الثورة إلى اكتساب مظهر جديد. وربما لا يكون ذلك لائقا، بيد أن هناك أمورا كثيرة على المحك. وإذا استطاعت تونس أن تصبح تركيا العالم العربى، بمعنى دولة ديمقراطية فاعلة يكون فيها التيار الإسلامى جزءا من التنوع الانتخابى، بدلا من أن يشكل تهديدا له؛ سوف يتضح أن الذريعة المبتذلة التى يستخدمها الطغاة العرب، وهى أنهم حائط الصد الوحيد ضد الجهاديين، كذبة لحماية الذات. ولا عجب أن يفقد الزعيم الليبى معمر القذافى رشده، فيهذى بكلام عن الثورة البلشفية والثورة الأمريكية فى شوارع تونس. ولا عجب أن يرتفع مستوى القلق فى مصر، حيث يكتب محمد البرادعى، الفائز البارز بجائزة نوبل والعامل المحتمل لتغيير اللعبة، على موقع تويتر عن درس تونس: «على النظام أن يفهم أن التغيير السلمى هو السبيل الوحيد لتجنب ما لا يحمد عقباه». وأعتقد أن الرئيس حسنى مبارك، الذى رأس النظام لثلاثة عقود، سوف يواجه انتفاضة على الأقل، إذا حاول تسليم السلطة لولده، جمال، فى الظروف الحالية. حيث يسرى حاليا بين العرب الذين يعانون من سوء حكامهم ما هو أكثر من عدوى «جميعنا تونس الآن». وهم يتحدثون عن تأثير تونسى على غرار لعبة الدومينو. وهو سبب كاف لكى تهتم تونس باكتساب هذا الحق، وفى اعتقادى أنها تستطيع. ولا شك أن السير مع القطيع وهو يهتف: اقطعوا رءوسهم جميعا! أمر مغر. غير أن العراق أوضح مخاطر تفكيك نظام كامل بين عشية وضحاها: الحزب وقوات الأمن وكل أركان النظام. حيث إن مئات الآلاف ممن يصيبهم التفكيك؛ لا يتلاشون وإنما يدبرون الانتقام. وكانت تونس فى ظل زين العابدين بن على دولة بوليسية، مثلها مثل العراق فى عهد صدام حسين، كما كانت تُحكم بدهاء شرس مثل سوريا. ومن ثم، فسوف أنتظر ما سيقدمه الغنوشى طالما تعمل حكومته من أجل إجراء انتخابات رئاسية سريعة ومن ثم انتخابات برلمانية. وكما يوضح لإذاعة بى بى سى، سليم عمامو، وهو مدون معارض سابق أطلق سراحه من السجن قبل أسبوع، وأصبح كاتبا أول لدى وزير الشباب الآن: «ليس من السهل أن يكون فى الحكومة مبتدئ فى عالم السياسة مثلى». وهذا صحيح: فلا يمكن أن ترتب الفوضى تصويتا له مصداقية. وهذه دولة تزهو أهم جماعة معارضة شرعية فيها بألف عضو، وهى الحزب الديمقراطى التقدمى. ويقول أحمد بوعزيزى عضو لجنته التنفيذية: «نحن نسير على قشر بيض»، فوزير الخارجية يداه ملوثتان بالدم، ووزير الدفاع أبرم صفقات غير مشروعة لصالح السيدة الأولى السابقة، والحزب الديمقراطى التقدمى قدم تنازلا عندما قبل تعيين وزير واحد، هو وزير التنمية المحلية الاقتصادية. فهل يمكن للحزب الآن أن يضغط من أجل المزيد؟ وعبر نافذة مفتوحة، يصل هتاف يتهم الحزب الديمقراطى التقدمى بخيانة المبادئ. فيقول عضو بالحزب: «هذا أمر جيد حرية التعبير!» وسيكون على تونس إجراء مقايضات مؤلمة، إذا أرادت أن تظهر فى نهاية الأمر أنه لا يوجد فى الجينوم العربى ما يحتم أن يحل ديكتاتور آخر محل الديكتاتور. وتتمتع تونس بالكثير من العناصر التى تتيح لها المضى فى هذا الطريق: ارتفاع مستوى التعليم، ونساء متحررات لقين تشجيعا على استخدام وسائل تنظيم النسل، وحجم معقول للدولة، وحركة إسلامية وصفها مايكل ويليس، الخبير الجنوب أفريقى فى كلية سانت أنتونى جامعة أكسفورد بأنها «ربما تكون أكثر الحركات اعتدالا وبراجماتية فى محيطها». وقد أصدر زعيمها المنفى، راشد الغنوشى، العديد من التصريحات التصالحية. ومن ثم، يمكن لتونس ديمقراطية أن تقوم بدور تركيا. وفى الأسابيع المقبلة، ستكون هناك عناصر تحريضية تراهن على الأسوأ، فضلا عن الرافضين المعتادين من كارهى المسلمين. فالديمقراطية العربية تهدد مجموعة من المصالح الخاصة. كما أنها السبيل الوحيد للخروج من مأزق الحكم المطلق الفاسد فى الدول العربية الذى يفرز التطرف، فضلا عن أنها تمثل مصلحة أمريكية حيوية.