هناك مجموعة من المناطق المسيجة على أطراف هذه المدينة مترامية الأطراف، تحمل أسماء مثل بيفرلى هيلز وماى فير. وهى استراحات لكبار الأثرياء الذين اغتنوا بسبب صلاتهم بعائلة مبارك. وذات يوم زار صديق يدعى ذو الفقار إحداها، وأعجبته الحديقة الخضراء الشاسعة بجوار إحدى الفيلات، وتساءل عن تكلفة رى ذلك العشب. فقال المالك إنها تكلف ستة آلاف جنيه مصرى شهريا أو ما يزيد قليلا عن ألف دولار. وذهل ذو الفقار لمرأى أجهزة تكييف الهواء تهدر وسط شتاء معتدل، فسأل عن فاتورة الكهرباء: عشرة آلاف جنيه أخرى أو تقريبا ألف و700 دولار. وكيف يمكن تدبير المياه فى بلد لا يحصل مزارعوه على ما يكفى للرى، وتوفر الدعم للفول والخبز من أجل إطعام الجماهير، ويعتبر من يحصل على أكثر من مائة دولار شهريا محظوظا؟ ابتسم المالك قائلا: صديقى أحمد المغربى يدبر ذلك. والمغربى، وزير الإسكان السابق، من أولئك المسئولين الحكوميين رفيعى المستوى، الذين يتم الآن فضحهم والتشهير بهم على يد حكومة حسنى مبارك الجديدة. وفى محاولة يائسة لكبح الغضب، جمدت أحدث حكومات مبارك الحسابات البنكية لعدد من الوزراء السابقين والمقربين من الحزب الوطنى الديمقراطى المدلل. وبغض النظر عن أن معظم هؤلاء المسئولين قاموا بالفعل، منذ فترة طويلة، بشحن ثرواتهم إلى سويسرا؛ إلا أنه يقال إن عملية تنظيف كبيرة قد بدأت. ومصر ليست الدولة الوحيدة التى تشهد هوة بين الأثرياء وبقية الشعب؛ فهذا اتجاه عالمى. ولكن فى بلد يبلغ عدد سكانه 83 مليون نسمة، ومازال نحو 30 فى المائة منهم أميون، وغالبا ما تعتمد الثروات الكبيرة على الانضمام إلى ابن مبارك أو دائرة معارفه، يصبح الوضع ملتهبا بصورة خاصة. وقد استمعت إلى العديد من الشكاوى فى الشوارع الصاخبة خلال الأيام القليلة الماضية، ولكن أكثر الكلمات ترديدا هى: «الفساد»، و«السرقة»، و«اللصوص»؛ وليس هناك ما يسبب الغيظ مثل فوضى تتمتع برعاية الدولة، حيث لا يتحدد الخطأ والصواب فى المحاكم، وإنما فى رأس مبارك. فقد كانت مصر تمتلك اقتصاد سوق حرة مدعوما من الغرب، تديره عائلة تزدرى الحرية: وهو أمر مريب. فهو يضع القوات الشاملة لتركيز الثروة فى أداة لخدمة القلة المختارة. وقال لى دبلوماسى غربى: «لا توجد مساءلة، ولا سلطة قضائية مستقلة، ولا يوجد فرصة للتنفس؛ ولا يعلم أحد المعايير. فما هو النظام الذى يتم القبض عليك بموجبه؟ وإذا حدث وأمر القاضى بإطلاق سراحك، يعيدون القبض عليك». وأكاد أكون مستعدا للتعاطف مع المغربى وغيره من الذين تمت التضحية بهم: فهم ضحايا تعسف المستفيدين. ولن تجدى التجربة التى وصمتهم بالإجرام؛ حيث إن النظام المفتوح وحده يمكنه تصويب علل الاقتصاد المغلق. ومن دون شفافية وسلطات مستقلة تصاحب حكومة منتخبة يمكن محاسبتها، سوف تتخذ السرقة شكلا جديدا فحسب. وسوف يعتنى شخص آخر بتوفير مياه الرى لحدائق المدللين، بينما تعانى الحقول الزراعية من الجفاف. ومازال ليس واضحا، بعد عشرة أيام على بداية انتفاضة مصر، ما إذا كان مبارك مستعدا لإفساح الطريق للتغيير الجارى فى العالم العربى. لكن هناك أمرا واضحا: زمنه قد ولى؛ مثله مثل زين العابدين بن على. ويثير ذلك كله تساؤلا: بأى مبرر تدعم الولاياتالمتحدة وتمول حليفا يزدرى القانون، ويقيم ديمقراطية الوهمية، ويرعى سرقة هائلة تستهين بكل شىء، فماذا تؤيد أمريكا؟ وهناك عدة إجابات؛ لوقف الجهاديين الذين يهددون حياة الأمريكيين؛ ولضمان أمن حليف آخر هو إسرائيل؛ ولنشر الأسواق الحرة وإن كانت مشوهة التى تستفيد منها الشركات الأمريكية، وضمان الاستقرار فى أخطر مناطق العام. فالعالم مكان معيب؛ حيث لم توجد العصابات أثناء الحرب الباردة فحسب. وأنا أتفهم جميع هذه الحجج. فمبارك كان قويا، بينما تواصل العصابات عملها. لكن الرؤى التالية واجهها تجاهل تام: عدم الاستعداد لإدراك أن الشرق الأوسط قد تطور؛ وأن النفاق الأمريكى واضح للجميع، وأن الأحزاب الإسلامية يمكنها إدارة اقتصاد مزدهر؛ وأن الغضب الشعبى تجاه حدائق المقربين الخضراء يغذى قضية الجهاد، وأن أكثر مساندة فعالة لإسرائيل لا يكون بحصرها فى موقف الدفاع، ولكن تشجيعها على الوصول إلى قوى التحديث فى الشرق الأوسط وليس أقلها فى الضفة الغربية. وتستطيع الديمقراطيات التعايش مع المتطرفين دينيا المنظمين سياسيا، مثلما توضح إسرائيل نفسها. وتلك إحدى نقاط قوتها. وفى ميدان التحرير، حيث جمهورية الأمر الواقع التى نشأت مع الانتفاضة، أسرعت إلى سيف سلماوى، مدير عام إحدى دور النشر. كان مبتسما، وسألته عن السبب، فقال: «صرنا فجأة بشرا. نعتقد أن باستطاعتنا اتخاذ قرار وأن ما نقرره ذو قيمة، وأن لدينا قيمة كالبشر». وأضاف: «قبل ذلك، كان هناك الرئيس، والشرطة، والجيش، وأموالهم: كنا نحن الشعب موجودون فقط لخدمتهم.» «نحن الشعب»؛ ألا تبدأ على هذا النحو أمور جيدة مثل: «المصلحة العامة»؟