لا تفتقر الليبرالية إلى القوة الثقافية حيث تكشف العديد من استطلاعات الرأى أن غالبية أساتذة الجامعات، والصحفيين الوطنيين يصوّتون للحزب الديمقراطى. ويهيمن الليبراليون على صناعة السينما، والتليفزيون، والموسيقى، والنشر. كما أنه ليس صحيحا أن الأحداث الأخيرة دحضت الرؤية الليبرالية. بل على العكس، مازلنا نتعافى من أزمة مالية سببها إلى حد كبير تعاظم سوق الأوراق المالية فى وول ستريت. حيث تتزايد أرباح الشركات بينما رواتب العمال ثابتة. وليس صحيحا أيضا أن معارضى الليبرالية ينتقلون من قوة إلى قوة. فالحزب الجمهورى يفتقر إلى الشعبية، وأحيانا يكون وضعه حرجا.
وبالنظر إلى الظروف، كان ينبغى أن يكون هذا هو العصر الذهبى لليبرالية. ومع ذلك فإن نسبة الأمريكيين الذين يطلقون على أنفسهم ليبراليين ثابتة أو تشهد تراجعا. وهناك الآن اثنان من المحافظين فى هذا البلد مقابل كل ليبرالى. وعلى مدى الأربعين سنة الماضية، عجزت الليبرالية بشكل مذهل عن توسيع حصتها على الساحة. ولعل أكثر التفسيرات أهمية ما يمكن تسميته بمشكلة الأداة. فربما يتفق الأمريكيون مع التشخيصات الليبرالية، غير أنهم لا يثقون فى الأداة التى يستخدمها الديمقراطيون لحل المشكلات. فلا يثقون فى الحكومة الفيدرالية. وكانوا قبل عقود قليلة يثقون فيها أما الآن فلا. ووفقا لاستطلاع رأى أجرته فى أكتوبر جريدة نيويورك تايمز، وشبكة سى بى اس نيوز، لا يثق فى قدرة الحكومة على الأداء الصائب معظم الوقت، سوى 10 فى المائة من الأمريكيين.
فلماذا لا يثق الأمريكيون فى حكومتهم؟ لايرجع ذلك إلى نفورهم من البرامج الفردية مثل الرعاية الصحية. ولكن الأرجح أنهم يعتقدون أن النظام بأكمله جامد. وبتعبير اقتصادى، يعتقدون أن الحكومة يسيطر عليها الساعون لتحقيق أرباح خاصة من دون جلب فائدة على المجتمع.
وهذا هو المرض الذى يفسد الحكومة فى كل زمان وكل مكان. وكما كتب جورج ويل فى عموده بصحيفة واشنطن بوست يوم الاحد، بينما ينمو حجم الحكومة، تتزايد جماعات المصالح وتسعى إلى الاستيلاء على السلطة والمال.
وبعض هذه الجماعات الساعية لتحقيق مكاسب تأخذ صورة شركات. ويلاحظ ويل أن الحكومة الفيدرالية تقدم الدعم لصناعة السكر التى تفيد قلة من الأثرياء، بينما تفرض التكاليف على ملايين المستهلكين. وتنتشر جماعات المصالح الأخرى عبر الطيف السياسى. وقد تعرض قانون الضرائب للتعديل أربعة آلاف و428 مرة خلال السنوات العشر الماضية، لصالح اليسار واليمين والوسط.
ويمارس آخرون نفوذهم بشفافية وديمقراطية. كما يلاحظ ويل أنه فى عام 2009، كان صافى دخل الأسر التى يعولها المواطنون من كبار السن 47 ضعف دخل الأسر التى يعولها شخص تحت سن ال 35. غير أن كبار السن استخدموا قوتهم التصويتية لحماية البرامج التى تعيد توزيع المزيد من المال من الشباب إلى الكبار والأثرياء.
●●●
ومن الملاحظ، أن الليبراليين لديهم دافع خاص لاستبعاد الباحثين عن المصالح الخاصة. غير أن هذا لم يكن أولوية رئيسية. فلم يعد فى الليبرالية الأمريكية أمثال ستيف جوبز الذين يصرون على أن تظل الحكومة بسيطة، وأنيقة، وسهلة التعامل. وإذا كان البحارة يصقلون سفنهم، والفلاحون يزيلون الأعشاب الضارة، فإن الليبراليين لم يمضوا وقتا طويلا فى تخليص الدولة من الشوائب.
والأسوأ من ذلك أن الساسة الديمقراطيين فى محاولة لمحاكاة خطاب الجمهوريين يقومون بتشويه اسم الحكومة دائما لصالح مكاسب قصيرة الأجل. فكم سمعنا ديمقراطيين من كارتر حتى أوباما، يهاجمون واشنطن، متهمين إياها بالانعزال وقصر النظر والفساد والتفاهة؟ وإذا كان الطبيب الجراح بنفسه يعتقد أن أدواته ملوثة، فماذا لا نردد نحن نفس الاتهام؟
وفى الأسابيع القليلة الماضية، بدأت إدارة أوباما حملته الانتخابية الرئاسية عن طريق افتعال سلسلة من المعارك الصغيرة مع مجلس النواب الذى يتزعمه الجمهوريون بخصوص أشياء مثل التعيينات فى عطلة البرلمان. وربما تساعد هذه المشاحنات الفارغة أوباما فى المدى القصير عن طريق تحسين صورته عن الجمهوريين فى الكونجرس. ولكنهم لن يؤدى إلا إلى تشويه سمعة واشنطن على المدى الطويل. ولا شك أن الحياة غير عادلة. حيث يعزز الفساد الجمهورى من دون قصد حجة المحافظين أن الحكومة فاسدة. بينما يقوض فساد الديمقراطيين الزعم الديمقراطى أنه يمكن الوثوق فى أن واشنطن سوف تفعل الصواب.
●●●
فى الحقيقة، يرجع عدم توسع الليبرالية إلى أنه ليس لديها مارتن لوثر، أعنى زعيما ملتزما باقتلاع أشكال الفساد، والعقد، والتسيب التى نمت عبر السنين.
وإذا كنا سوف نتسامح مع بعض النصائح الخارجية، فربما يدرس الرئيس أوباما خوض الانتخابات كما لو كان لوثر. فلا يكفى أن تفتعل بعض المشاجرات الصغيرة، ثم تحقق الفوز باعتبارك أحسن السيئين. ومن ثم، عليه أن يخوض الانتخابات باعتباره شخصا يؤمن بالحكومة، لكنه يرى مدى ما تحتاجه من تطهير وتنقية. فعليه أن يبسط قانون الضرائب، ويبسط التدريب على الوظائف، ويبسط الرعاية الصحية. وعليه أن يختار كل أسبوع جماعة مصالح ليصمد أمام السخرية والتشويه. ويغير لوائح الكونجرس. ويبسط الغابة القانونية التى تقوض المسئولية.
وإذا لم يستطع الديمقراطيون استعادة ثقة الأمريكيين فى الحكومة، فلن تكون المشكلات التى يحددونها والخطط التى يقترحونها مهمة. ولن يثق أحد بالأداة التى يستخدمونها من أجل وضع حلول.