لقد ظل القضاء المصرى دوما فريضة محكمة وسنة متبعة، كما ظلت ولاية القضاء من أعلى الولايات قدرا، وأجلّها خطرا، وأعزها مكانا، وأعظمها شأنا، وأشرفها ذكرا، فبها تصان الشرعية، وتُعصم الدماء فلا تسفك، وتحرم الأعراض فلا تهتك، وتصان الأموال فلا تُسلب، ومن ثم فقد حمل القضاء الإدارى والقضاء العادى أمانة تحقيق العدل فرد المظالم عن المظلومين، وكان فى الطليعة منه دفاعا عن المشروعية. مجلس الدولة الذى أرسى الأسس، وأقر الدعائم، ووطد الأركان، وحشد قواه، وجند رجاله، وأعد عدته، فناضل عن حق هذا الشعب النبيل فى الدفاع عن حرياته العامة وحقوق أفراده، وحق الوطن فى أن تقوم نظمه ثابتة مستقرة ترتكز على ركنين من القانون والعدالة، فظل مجلس الدولة هو الغوث الذى يفزع إليه الأفراد والجماعات عندما تهب رياح الغصب والفساد وانتهاك الحقوق والحريات، فكانت ثورة الشعب المصرى فى الخامس والعشرين من يناير 2011 من وحى إرهاصاته وتصديه للقهر والطغيان، وكان الحامى لتلك الثورة فى مواجهة الثورة المضادة، وسيظل حاميا للشعب كما سيظل هذا الشعب النبيل حاميا لمجلس الدولة وقضاء الحقوق والحريات فى مواجهة كل الدعوات المشوبة بالقصور الداعية لإلغائه!! أو لتحجيمه، أو لتفكيكه وتوزيع اختصاصاته على غيره!!، أو بدمجه فى غيره!!، فالحقيقة أصلب عودا من الخيال الذى سيظل خيالا فى نفوس المنادين به على استحياء، وسيصون مجلس الدولة وحدته واستقلاله وقوته ومن قبل ذلك كله عناية الحق والعدل ومشيئة الشعب المنحاز لحقوقه وحرياته وعزة هذا الوطن المجيد، وليبقى قوله تعالى «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون» صدق الله العظيم. ومع الغضبة العارمة من قضاة مصر فى مواجهة كارثة التدخل فى شئون القضاء فى قضية التمويل الأجنبى، وما أعقبه من تنحى المحكمة عن نظر الدعوى ثم التدخل بإصدار قرار برفع حظر السفر عن المتهمين الأجانب وسط تلويح من بلادهم بقطع المعونة، وفى مناخ التحدى الشعبى للتمسك بالسيادة المصرية والدفاع عن العزة الوطنية ورفض تلك المعونة وتدبيرها من عرق وسواعد المصريين، ومع اقتحام المجال الجوى الوطنى والهبوط الأرضى دون تصريح أو إذن من الجهات الرسمية، استنكر نفر من رجال قضاء مصر العظيم ما جرى من مساس باستقلال القضاء، وأصدرت الدائرة الجديدة بمحكمة جنايات القاهرة التى تنظر قضية التمويل الأجنبى بجلسة الخميس قبل الماضى قرارها بتكليف النيابة العامة بضبط وإحضار المتهمين المرفوع عنهم قرار حظر السفر، ولم يمح ذلك ما شاب استقلال القضاء من تدخل فى شئون العدالة على نحو بات معه حريا برفع يد وزارة العدل عن شئون القضاء والقضاة والاستجابة لمطلبهم هذا فى قانون السلطة القضائية، وليكن جل الاهتمام منصبا على تحقيق الاستقلال التام، وليبقى مجلس الدولة مستقلا متمتعا بالمزيد من الاستقلال ولتذهب أدراج الرياح مطالب الدمج فالأولى الانتباه لقضية الاستقلال فقد باتت هى قضية الساعة وكل ساعة، ولتظل مقولة الأستاذ الدكتور عبدالرازق السنهورى الرئيس الثانى لمجلس الدولة منيرة للنفوس المظلمة حين قال عن مجلس الدولة: «إنه قد يبطئ فى سيره.. وقد يتعثر فى خُطاه.. وقد يرجع خطوة إلى الوراء وهو يتابع التقدم إلى الأمام.. ولكنه سيقوى.. وسيصلب عوده.. وسيواصل المسير.. وسيصل إلى الغاية»، ولقد قوى مجلس الدولة وصلب عوده وواصل المسير، وفجر الثورة وحماها، وصار قادرا ومعه شعب مصر على صيانة وحماية كيانه ووحدته واستقلاله، تصديقا لقوله تعالى «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ» صدق الله العظيم.