أثناء السنوات السابقة على يناير 2011 بدا تاريخ مصر الحديث وكأنه معيار يقاس به الحاضر. فمعارضو حكم مبارك على أطيافهم استخدموا «الحقبة الليبرالية» التى أعقبت ثورة 1919 لتوجيه انتقادات عديدة لنظام الحكم. فالليبراليون العلمانيون اعتبروا العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين عصرا ذهبيا للحريات السياسية والتسامح الدينى والنهضة الثقافية. أما ذوو الميول المحافظة فرأوا فى القصر قيادة قوية لا يشوبها ذلك الفساد الأخلاقى الذى وصم مبارك ورئاسته. حتى الإسلاميين اعتبروا تلك السنوات فترة ازدهارهم الحقيقية قبل أن يعصف بهم عبدالناصر وحملاته المتتالية عليهم. وبالتالى وبناء على هذه الرؤى الوردية لهذين العقدين لن يبدو الاحتفاء بدستور 1923 الذى نشهده هذه الأيام مفاجئا، إذ يعرض لنا اللاعبون الأساسيون على الساحة السياسية هذا الدستور كنموذج يجب الاهتداء به فى عملية كتابة الدستور الجديد. على أن القراءات الأكاديمية المتأنية تقدم لنا رؤية أكثر واقعية لتلك الوثيقة الحاكمة. فالشائع فى هذه القراءات أن دستور 1923 كان نتاج اتجاهين سياسيين متعارضين: أحدهما ديمقراطى وذو شعبية، والآخر ملكى محافظ. فحسب هذه القراءات يبدو دستور 1923 كأنه دشن حقبة للسيادة الشعبية الحقيقية كما تدل على ذلك الانتصارات الانتخابية المدوية التى كان حزب الوفد يحققها ولكنها سيادة كان القصر يعبث بها دائما مدعوما فى ذلك بحلفائه البريطانيين. ومن هذا المنطلق فإن التعديلات الدستورية اللاحقة التى تمت فى 1954 و1971 كانت تبغى الفصل بين تلك العناصر «الملكية» التى يجب استئصالها وغيرها من العناصر «الديمقراطية» التى يجب إبقائها والحفاظ عليها.
●●●
وبناء على ذلك جذبنى الفضول لعقد مقارنة بين السجال الحالى حول الدستور وبين ذلك الذى دار حول دستور 1923، وأمضيت الأسابيع القليلة الماضية فى دار الوثائق القومية حيث انكببت على قراءة تقارير لجنة وضع دستور 1923 المحفوظة بالدار. ومن قراءة هذه الوثائق اتضحت لى صورة يصعب تخيل صورة أقتم منها: فالأسلوب غير الديمقراطى الذى شاب عملية كتابة الدستور أفضى فى النهاية لنص غير ديمقراطى دفع حتى من قاموا بصياغته للتنصل منه.
فحزب الوفد، بالرغم من شعبيته الجارفة، قرر عدم الاشتراك فى عملية كتابة الدستور مؤكدا ضرورة أن يتم انتخاب أعضاء لجنة كتابة الدستور من جموع الشعب مباشرة. وبالتالى وفى ظل غياب الوفد أصدر القصر أمرا عاليا بتشكيل لجنة كتابة الدستور برئاسة حسين باشا رشدي. كان أغلب أعضاء هذه اللجنة التى عرفت بلجنة الثلاثين نسبة إلى عدد أعضائها إما وزراء سابقين أو أعيان من كبار ملاك الأراضى. وبالرغم من عدم تمثيلهم للشعب بطوائفه المختلفة إلا أنهم فى نفس الوقت لم يشكلوا فصيلا واحدا، فمحاضر جلساتهم المسهبة تسرد مناقشات حامية حول العديد من القضايا مثل حرية الصحافة، والحقوق القانونية للأقليات، والدور الذى يلعبه رأس المال الأجنبى فى السياسة المصرية، والفرق بين الحقوق الطبيعية والحقوق السياسية.
ولكن بالرغم من اختلاف الآراء فى هذه القضايا، فإن أغلب أعضاء اللجنة كانوا مشتركين فى شىء واحد وهو شكهم العميق فى قدرة المصريين على ممارسة الديمقراطية النيابية أو حتى استعدادهم لها.
فعلى مدار الأربعة عقود السابقة كانت قوى الاستعمار البريطانى تبرر استمرار الاحتلال باستخدام خطاب فيه الكثير من الوصاية على الشعب المصرى. وحسب هذا الخطاب فإن القوى الأجنبية أعطت لنفسها الحق فى أن تقوم بدور الوصى على شعب لا يُستأمن على حكم نفسه بنفسه. وبالرغم من أن أعضاء اللجنة كانوا شغوفين بإعلاء مبدأ السيادة الوطنية، إلا أنهم شاركوا المحتل فى تخوفه من تداعيات إشراك الشعب فى العملية السياسية. وبالتالى أتى الدستور الذى أنتجوه معبرا عن اتجاهين متناقضين فى نفس الوقت، فهو من ناحية عكس اهتمام أعضاء اللجنة بحماية الحكومة من الجهل والتخلف الذى افتُرض أن الشعب يعانى منهما؛ وفى نفس الوقت حاول هذا الدستور أن يدشن حقبة من الحكم الديمقراطى الحقيقى. ويمكن أن نتلمس هذا التعارض فى خاصيتين من خواص النظام السياسى حاول أعضاء اللجنة أن يأسسوا لهما فى الدستور.
أول هاتين الخاصتين تتعلق بقرار الأخذ بنظام الانتخاب بدرجتين. وقد دافع المتحمسون لهذا النظام (الذى يختار فيه الناخبون مندوبين سينتخبون بدورهم مرشحى البرلمان) بالقول إن له سابقة فى الماضى، فانتخاب أعضاء الجمعية التشريعية قبل الحرب العالمية الأولى كان قد تم بدرجتين. ومن الملفت أن عضو اللجنة على ماهر باشا انتقد هذا الاعتماد على القوانين السابقة. ففى مداخلاته فى المناقشات قال إن «البلاد تطورت تطورا تناول جميع مظاهر الحياة فلا يصح اذن الاحتجاج بالقديم أمام هذا التطور الحديث بل أظن انه قد آن لنا أن ننتقل إلى حالة جديدة». ولكن تلك النظرة التقدمية التى انتهجها على ماهر فشلت فى إقناع زملائه فى اللجنة الذين حذروا من أن البلاد ليست جاهزة بعد لتحمل مسئولية الانتخاب الحر المباشر. وبالتالى أتى قانون الانتخاب الذى صاغوه، بالإضافة إلى الدستور نفسه، محافظا على نظام الانتخاب الذى كان قد تمت صياغته فى الحقبة الكولونيالية.
وفى السنوات التالية ظل قانون الانتخاب محل مناقشات حامية وشهد العديد من التعديلات. ولكن الخاصية الثانية التى تعتبر عادة أنها تنتمى لغيرها من الخواص الليبرالية لدستور 1923 سيكون لها تأثير أعمق وأطول. فعوضا عن تحديد مجموعة من الحقوق وتحصينها ضد أى تعديات تشريعية محتملة، نصت مسودة الدستور الذى صاغتها لجنة الثلاثين على مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية ولكنها فتحت الباب للمشرع أن ينتقص منها ويحدها. فكما هو معروف، أبقى الدستور على النصوص التى تسمح بإعلان الأحكام العرفية، وهى الأحكام التى تسمح تحديدا بتعليق تلك الحقوق والحريات الأساسية. والأدهى أن المواد التى حددت الحقوق والحريات الأساسية نصت على إمكانية تعليق هذه الحقوق حتى فى أوقات السلم. هنا تحديدا، أى فى تضمين مسودة الدستور لهذه الاستثناءات المهمة، يكمن المنحى الخطير الذى أخذته قصة دستور 1923.
●●●
فى أوائل نوفمبر 1923 راجعت لجنة سميت ب«اللجنة الاستشارية التشريعية» المسودة النهائية التى قامت بصياغتها لجنة الثلاثين. وبالرغم من أن رئيس هذه اللجنة، وزير الحقانية مصطفى فتحى باشا، كان مصريا، إلا أن أغلب أعضائها كانوا موظفين بريطانيين وكان من أهمهم «المستشار القضائى» شيلدون آموس. واقتصرت صلاحيات اللجنة الاستشارية التشريعية على مراجعة مسودة الدستور «من الناحية القانونية فقط دون إدخال أية تعديلات تمس المبادئ السياسية». على أن اللجنة تعدت اختصاصاتها وأدخلت الكثير من التعديلات الموضوعية على المسودة، ففى المادتين الخامسة عشرة والعشرين المتعلقتين بحرية الصحافة وحرية الاجتماع على، أضافت اللجنة تعديلات سمحت بتعليق هذه الحريات «اذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعى».
وقد حاولت المذكرة الإيضاحية أن تبرر هذا التعديل الجوهرى بالقول أنه ضرورى «لمواجهة الدعوات الهدامة» التى يقوم بها البلاشفة وغيرهم من العناصر غير المرغوب فيهم. وإذا صح أن هذا القلق من البلشفية كان أمرا جديدا، إلا أن المنطق الذى كان وراء هذا التعديل كان أمرا قديما ومستقرا. فعلى مدى عقود طويلة كان المستعمر البريطانى يتخذ من التطرف بشتى أنواعه ذريعة لإصدار العديد من التشريعات ضد القوى الوطنية وغيرها من المناوئين له. ففى غياب أطر دستورية عامة يمكن أن تحد من صلاحيات السلطة التنفيذية قامت سلطات الاحتلال بفرض رقابة قمعية على الصحافة، واستخدمت القوة المفرطة لفض المظاهرات العامة وسمحت لأجهزة الأمن بالتجسس على خصومها السياسيين وكل هذا باسم «الأمن العام». وبالتالى فإن اللجنة الاستشارية التشريعية بإدخالها هذه التعديلات كانت قد سربت تلك الإجراءات القمعية التى انتهجها الاستعمار إلى نفس الوثيقة التى كان يفترض أنها ستضع حدا لهذه الإجراءات.
لم يؤخذ رأى لجنة الثلاثين فى تلك التعديلات التى أدخلت على الوثيقة التى كانوا قد صاغوها، بل إن بعضهم علم بهذه التعديلات من خلال الصحف!! وإزاء هذا الوضع الشاذ قدم ستة عشر عضوا من أعضاء لجنة الثلاثين عريضة لرئيس الوزراء يطالبونه فيها بإلغاء هذه التعديلات. واعتمادا على علمهم بأن قطاعات كبيرة من الشعب كانت تشكك فى شعبية اللجنة الاستشارية التشريعية فقد زادوا بالقول: «لذلك نحتج على تلك التعديلات ونطلب إلى دولتكم أن يصدر الدستور كاملا كما وضعته اللجنة، ونلفت نظركم إلى أنه إذا صدر وفيه هذه التعديلات أو بعضها أو ما يماثلها فلن يرضى دستوركم أحدا بل سيكون مثارا لغضب الأمة بأسرها».
على أن الأيام أثبتت أن هذه التوقعات كان مبالغا فيها، فالقوى السياسية فى البلاد، وفى صدارتها الوفد، فضلت العمل حسب المنظومة التى وضعها هذا الدستور الذى وصف سعد زغلول اللجنة التى كتبته ب«لجنة الأشقياء». ويمكن القول أنه بالمقارنة بسنوات «الحماية المقنعة» فقد دشنت سنوات ما بين الحربين نظاما سياسيا أكثر انفتاحا سمح لأعداد كبيرة من المصريين بالانخراط فى العمل السياسى وبالاستمتاع بقدر من الحريات السياسية. ولكن أثناء العقود التالية شكل هذا الدستور الذى كافح من أجله المصريون تهديدا لهذه الحريات الجديدة فى نفس الوقت الذى كان ضامنا لها. وإذا كانت اللغة التى استخدمها الاستعمار ممثلا فى اللجنة الاستشارية التشريعية تذكرنا بشكل غريب بالكثير مما نقرأه الآن فإن ذلك يحثنا على التفكير فى مدى تأثيرهذه اللجنة وعمقها.
●●●
فى الوقت الذى تستعد فيه البلاد لكتابة دستور جديد، قد يكون من الأجدى أن ننظر للمستقبل وليس للماضى. فدعونا نتمنى ألا تطول الأيام التى نستلهم فيها دروسنا بالنظر لذلك الماضى.