«تمر أوقات يثقل فيها غياب أبى علىّ..كأن هناك طفلا جاثما على صدرى.. وأوقات أخرى يمكننى بالكاد أن أستحضر قسمات وجهه بدقة ويكون علىّ أن أخرج صوره التى أحتفظ بها فى ظرف قديم بدرج الكوميدينو».. يحيلك هشام مطر من السطر الأول لروايته الجديدة «اختفاء» إلى عوالم تضج بالخوف والحنين حتى لا تكاد تفرق بينهما، يحدثك على لسان بطله «نورى الألفى» عن حالة فقد أثقلتها مفاجأة اختفاء الأب بعد وشاية صحيفة سويسرية بذلك «عاشقان يفترقان بالقوة فى منتصف الليل».. وتحت هذا المانشيت المزلزل جاءت التفاصيل «اليوم فى الساعات الأولى من الصباح، تم اختطاف الوزير السابق والمعارض البارز كمال باشا الألفى من شقة تمتلكها «بياتريس بيناميور» إحدى ساكنات جينيف»، كان هذا الخبر وحده كفيلا بزلزلة كل شئ.. زلزلة منى الزوجة الجديدة التى اختفى زوجها وهو برفقة سيدة أخرى ، وزلزلة صورة الأب وهويته أمام الطفل نورى الذى ألقت على عاتقه هذه الحادثة بسنين من الهِرم.
جليد الاختفاء
رحلة البحث عن الأب والصمود فى مواجهة جليد «الاختفاء» كان مصير نورى وزوجة أبيه على مدار الرواية ، جابا فيها أماكن وأزمنة، والأهم كان الاقتراب من عالم الأب الذى لم يكن يعرف عنه شيئا، ولم يكن يتعدى نبرته المجافية وملامح وجهه الصلبة وبعض الانطباعات التى دونتها أمه عنه قبل رحيلها ، والأكثر كانت حالة الحنق التى تلبسته تجاه والده بعد قرار زواجه من سيدة أخرى بعد موت أمه، والأكثر هو شعوره تجاه زوجة الأب تلك بفيض من المحبة كان يرتطم على صخرة زواج والده منها.
زخم المشاعر المركبة فى علاقة «نورى» الابن بوالده كان من أبرز النقاط التى وددت الحديث فيها إلى الروائى الليبى هشام مطر.. سألته عما إذا كان قد تردد فى سرد مشاعر التعلق بزوجة الأب إلى هذا النحو فأجاب «أعتقد أن العلاقات الاجتماعية جميعها معقدة وخاصة العلاقات القريبة منها والحميمة ، الكتابة بالنسبة لى نوع من التفكير الرفيع والتأمل فى هذه التعقيدات».
علاقة نورى بوالده تدفعك لكثير من التأمل وأحيانا تثير داخلك كثيرا من الالتباس ، لاسيما بسبب تلك المشاعر المبكرة التى وجدت طريقها إلى قلب نورى تجاه زوجة أبيه منى، مشاعر قضى سنوات طويلة فى تفنيدها ومنطقتها وكثيرا كان ينساب مليا، فيروى نورى«كان عمرها ستة وعشرين عاما، وأبى واحدا وأربعين ،وأنا اثنى عشر.. يفصل بينهما خمسة عشر عاما ويفصل بينى وبينها أربعة عشر..لا يعد أنسب لها منى إلا بالكاد..ولم تغب عنى حقيقة أن امى كانت فى السادسة والعشرين عندما تزوجا.. كما لو أن أبى يحاول اعادة عقارب الساعة للوراء».
الترجمة العربية
صدرت هذه الرواية أول مرة العام الماضى باللغة الإنجليزية بعنوان Anatomy of a Disappearance ورغم أن الترجمة الحرفية لعنوان روايته هو «تشريح اختفاء» إلا انه تم الاستقرار على جعل عنوان « اختفاء» هو عنوان النسخة العربية للرواية التى صدرت أخيرا عن دار «الشروق»، وقام بترجمتها محمد عبدالنبى الذى وصفه مطر أثناء حديثه ل«الشروق» بالمترجم «اليقظ» معبرا عن سعادته الشديدة بالنسخة العربية، فهشام مطر من الكتاب العرب البارزين الذين يكتبون بالإنجليزية، فقد ولد فى نيويورك لأبوين ليبيين، وحققت روايته الأولى In the country of men «فى بلد الرجال» عام 2006 نجاحا كبيرا بعد أن اختيرت فى القائمة القصيرة لكل من جائزة «مان بوكر» جائزة «الجارديان للكتاب الأول» فى بريطانيا وجائزة «حلقة نقاد الكتاب الوطنى» فى أمريكا علاوة على عدد كبير من الجوائز الأدبية الدولية وترجمت إلى 28 لغة.
اقتراب من المعاناة
الحديث مع مطر تطرق إلى «اختفاء « باعتباره عنوانا لتيمة روائية غارقة فى الفقد فبالنسبة له « عادة ما ترتبط العلاقات الحميمة بمعاناة كبيرة، فكلما اقتربت من شخص أكثر كلما أصبحت الجوانب التى لا تعرفها عنه أكثر أهمية وتأثيرا، وتظل الرغبة فى التعرف على هذا المجهول مرتبطة بهذه المعاناة، فإذا عرفت كل شئ عن الآخر بالمعنى الحرفى لكلمة كل شئ بما فى ذلك مشاعره الدفينة وأحلامه ، فلن يتبقى شئ لاكتشافه عنه، وهو ما يجعل الغيرة شيئا سخيفا وفى الوقت نفسه مفهومة ، فهى نوع من الجنون الذى تقوده الرغبة الشديدة لامتلاك المحبوب، ويجب أن يعلم الشخص الغيور أنه بمجرد أن يمتلك محبوبه فلن يتبقى له شىء آخر لامتلاكه ولا شىء اخر للرغبة ، وهذا هو نوع من الجحيم، والحقيقة اننا لا نعرف الكثير عن أنفسنا ، والعالم مجال كبير للافتراضات ، وكثيرا نعتقد خطأ اننا نعرف كل شئ عن انفسنا وعن الآخرين ، ولا نتسامح أو نقبل عدم المعرفة ولم نتعلم فضيلة التسامح وتقبل عدم اليقين» ويضيف مطر « هذا بالطبع يتسبب فى كثير من المعاناة للانسان وانا يجذبنى الاقتراب من هذه المعاناة ،وفى كيفية فشلنا فى التعرف عن خصوصيات الآخر ورغبتنا الشديدة فى ذلك، وكثيرا ما تجذبنى الانتصارات الصغيرة التى تخرج من حالة فشل أكبر ، وتكرار الفشل الذى يواكب كل انتصار» . اختفاء «كان يعبر عن هذه الحالة،وطريق بالنسبة لى لتأمل العلاقات الانسانية، تساءلت ما الذى يمكن أن يحدث اذا اختفى أحد؟ وكيف يمكن أن يستوعب هذا الفقد؟.
متنفس للأحزان
تستمع فى رواية مطر لأصداء ودودة من العالم الآخر تجد طريقها لقلوب الأحباء على الأرض ،يستمع نورى فى أحلك لحظاته لصوت أمه تحدثه وكأنما تربت على كتفه وهو حبيس مدرسته الداخلية فى لندن التى أرسله إليها والده عقب زواجه من منى ، فبات حبيس المكان والقلب ، يتذكر مرة أمه «أوشكت أن أبكى لكننى تذكرت حينها ما قالته لى أمى عن ضرورة التعامل بحذر مع أحزاننا».. وجدت هذه الجملة من الرواية شديدة الشبه بتعليق لهشام مطر على أحد أسئلتى قائلا: «يجب أن نجد متنفسا لأحزاننا.. من المحاور الأخرى التى قادت الرواية كان تأثير الذاكرة على الحدث، وكيف أنها ترتبط بالمفقود وتستطيع أن تغير الحاضر وتشكله، وكيف يبدل الحاضر ما نحمله من ذكريات، وفى عملى الى حد بعيد اهتممت بطبيعة الذاكرة ، والطريقة التى تعمل بها الذاكرة تشى بالكثير، تأملت فى طبيعتنا الخالصة ونوايانا الخالصة أيضا ، فأنا كروائى لا يوجد عندى ما أبيعه، كل ما أستطيع فعله هو أن أنظر وأستمع وأشعر ، أنظر عن قرب وأتأمل ،وإعمل عقلى وقلبى».
خيانة للرواية
«هبطت الطائرة فى القاهرة مع طلوع النهار تماما.. حين جلست فى المقعد الخلفى من التاكسى أدهشنى كم كان العنوان القديم حاضرا على لسانى «21 شارع فيروز..الزمالك».. (..)كل ما أحببته وكل ما فقدته كان هنا ذات يوم.. والآن أصل إلى غياب ، وقد رحل الجميع».. هكذا جعل هشام مطر بطل روايته يصل إلى القاهرة فى نهاية أسفاره على مدار 11 عاما ،اختار أن يجعل مدينة طفولته مستقره الأخير بعد سنوات من الدراسة فى الخارج والبحث عن أبيه المفقود، كان لاختيار هذا المصير وقفة مع هشام مطر سألته عن اختيار البطل لمصر فى نهاية المطاف رغم انغماسه فى الثقافة الغربية « من الصعب علىّ الإجابة على هذا السؤال، لأننى على المستوى العام لا أعرف لماذا ختم حياته فى مصر ! ولكن على مستوى أكثر عمقا أعلم بالطبع لماذا، ولكن محاولة تفصيل هذا الأمر وتوضيحه قد يكون خيانة للرواية ،ولهذا تكمن صعوبة كتابة رواية على مدار 3 أو 4 سنوات ، فالكتاب يمتلك لغته وكل الكلمات التى يضمها، وكل الاجابات التى تتبعه، عندما أكتب أتبع بشدة منطق وإحساس الراوى، وأترك الاجابة للقارئ عن هذا السؤال ، وهذا له علاقة بطبيعة كتابة الأدب ، فالكاتب لا يحتكر النص وأعتقد من وجهة نظرى أن القارئ هو الذى يفعل، والكاتب فى الحقيقة يجب أن يتبع هاجسا ما داخله حتى يكتب وليس ليتقاضى ثمنا ماديا ».
قبل ختام الحوار مع هشام مطر حول روايته، كان للوضع الليبى بعد القذافى حديث حيث يعتقد أنه «يحتاج الأمر الى بعض الوقت كى تتعافى ليبيا من واقعها السخيف والمروع الذى أرساه حكم أربعة عقود مضت، ولا اعتقد أن الناس تستوعب الصدمة التى تعيشها ليبيا اليوم، بما فى ذلك بعض الليبيين انفسهم ،فليبيا تحاول أن تستيقظ من كابوس طويل ،وتحاول أن تجد طريقها ، إما إلى أين ستذهب وكيف سيؤول الحال ما زال مجهولا، أما المؤكد أنها تعبر الى حالة الوعى، وهذا واقع أكثر ديناميكية وصحية بطبيعة الحال، بما فى ذلك حالة الحماس لتنوع الحياة الثقافية من احتفالات أدبية وفنية التى ستأخذ مكانها ،وكثرة المجلات والصحف التى صدرت.. كل هذا مدهش، ولكن كثيرا ما يتم اساءة استخدام هذه الحرية ، والتحدى الآن هو فى حماية هذه الحريات الجديدة مع الحفاظ على الأمن والكرامة ،والمؤكد أنه لم يعد هناك أحد يمكن أن يقبل السكوت بعد الآن».