لو لم تقدم الثقافة الإسلامية شيئا للعالم، سوى ابن خلدون، لكفاها، فهو أحد أهم علماء البشرية، الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، فهو مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة فى هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها. والتاريخ يؤكد أنه قد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقا بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسى أوجست كونت.
وعدد المؤرخون لابن خلدون عددا من المصنفات فى التاريخ والحساب والمنطق غير أن من أشهر كتبه كتاب بعنوان «العبر» وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب» و«العجم والبربر ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر»، وهو يقع فى سبعة مجلدات وأولها المقدمة وهى المشهورة أيضا بمقدمة ابن خلدون، وتشغل من هذا الكتاب ثلثه، وهى عبارة عن مدخل موسع لهذا الكتاب وفيها يتحدث ابن خلدون ويؤصل لآرائه فى الجغرافيا والعمران والفلك وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التى تميز بعضهم عن الآخر.
وابن خلدون هو ولى الدين أبو زيد عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمى، المعروف أكثر باسم ابن خلدون ولد فى يوم الأربعاء 1 رمضان 732 ه الموافق 27 مايو 1332 وتوفى فى الجمعة 28 رمضان 808 ه الموافق 19 مارس 1406 م، وكان فلكيا، واقتصاديا، ومؤرخا، وفقيها، وعالم رياضيات، واستراتيجيا عسكريا، وفيلسوفا، ورجل دولة، كما أنه مؤسس علم الاجتماع.
ولد فى إفريقية فى ما يعرف الآن بتونس عهد الحفصيين، كانت تملك عائلته فى الاندلس مزرعة هاسيندا تورى دى، دونيا ماريا الحالية القريبة من دوس هرماناس (اشبيلية).
ترك تراثا ما زال تأثيره ممتدا حتى اليوم.
حفظ ابن خلدون القرآن الكريم فى طفولته، وكان أبوه هو معلمه الأول، وشغل أجداده فى الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة وكانوا أهل جاه ونفوذ، نزح أهله من الأندلس فى منتصف القرن السابع الهجرى، وتوجهوا إلى تونس، وكان قدوم عائلته إلى تونس خلال حكم دولة الحفصيين.
قضى أغلب مراحل حياته فى تونس والمغرب الأقصى وكتب الجزء الأول من المقدمة بقلعة أولاد سلامة بالجزائر، وعمل بالتدريس فى جامع الزيتونة بتونس وفى المغرب بجامعة القرويين فى فاس الذى أسسته الأختان الفهرى القيروانيتان، وبعدها فى الجامع الأزهر بالقاهرة، والمدرسة الظاهرية وغيرهت،
وفى آخر حياته تولى القضاء المالكى بمصر، بوصفه فقيها متميزا خاصة أنه سليل المدرسة الزيتونية العريقة وكان فى طفولته قد درس بمسجد القبة الموجود قرب منزله، سالف الذكر المسمى «سيد القبّة».
توفى فى القاهرة سنة 1406 م (808ه)، ومن بين أساتذته الفقيه الزيتونى الإمام ابن عرفة، حيث درس بجامع الزيتونة المعمور ومنارة العلوم بالعالم الإسلامى آنذاك.
اعتزل ابن خلدون الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون، الذى انتشر فى جميع أنحاء العالم سنة 749 هجرية، وتفرغ لأربعة سنوات فى البحث والتنقيب فى العلوم الإنسانية معتزلا الناس فى سنوات عمره الأخيرة، ليكتب سفره المجيد أو ما عرف بمقدمة ابن خلدون، ليؤسس بها علم الاجتماع بناء على الاستنتاج والتحليل فى قصص التاريخ وحياة الإنسان.
واستطاع ابن خلدون بتلك التجربة القاسية أن يمتلك صرامة موضوعية فى البحث والتفكير.
ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ، وهى بدون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشرى فى مختلف العصور والأمم.
وفيما يتعلق بدراسة هيكل المجتمعات وتطورها قال روجية غارودى «فإن أكثر الوجوه تقدما يتمثل فى شخص ابن خلدون العالم والفنان ورجل الحرب والفقيه والفيلسوف الذى يضارع عمالقة النهضة عندنا بعبقريته العالمية منذ القرن الرابع عشر».