يلاحظ سائق التاكسى مشهد الشاب العشرينى الذى يركب دراجة ويصعد بها كوبرى أكتوبر من مطلع صلاح سالم. تمر الدراجة أمام التاكسى بسهولة وحرفية ثم تختفى حين تشق طريقها فى الممرات الضيقة بين السيارات المتكدسة فى زحمة السير فوق الكوبرى، إلا أن الدراجة تظهر أمام السائق مرة أخرى بعد أن تزامن وصولهما معا التاكسى والدراجة إلى مشارف مخرج الزمالك. يتعجب السائق من قدرة الشاب راكب الدراجة على تحمل قيادتها كل تلك المسافة، ويقول: «والله برافو عليه!». فى القاهرة الكبرى التى تجوب شوارعها 2.7 مليون سيارة طبقا لإحصاء عام 2011 الصادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بدأ مجموعة من الشباب عام 2008 مبادرة نادى راكبى الدراجات (Cairo Cyclers Club) لتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، وعملوا على استخدام طرق مبتكرة لنشر الدعوى للاعتماد على الدراجات كوسيلة انتقال. «بدأنا 5 أفراد من هواة ركوب الدراجات.. الآن المجموعة تضم 5 آلاف عضو.. كما أن هناك ما يقرب من 20 مجموعة مشابهة لها صفحات على الفيسبوك وتنشط ما بين القاهرة ومحافظات أخرى وإن تفاوت عدد أعضائها»، هكذا يقول مصطفى حسين- استشارى التنمية الاجتماعية المهتم بشئون البيئة وأحد الأعضاء المؤسسين لنادى راكبى الدراجات، والذى يستخدم الدراجة كوسيلة انتقال بشكل يومى. يسكن مصطفى فى وسط القاهرة ويتوجه لمقر عمله فى المعادى بالدراجة: «13 كيلو مترا تقريبا، أقطعها فى 25 دقيقة». ويفضل مصطفى الدراجة عن مترو الانفاق لأنه لا يطيق الزحام، كما أنه يعتبر قيادة الدراجة «منها وسيلة انتقال ومنها ممارسة رياضة.. كما أنها الوسيلة الوحيدة التى لا تستهلك وقودا، وبالتالى لا تلوث البيئة». هل استخدامه للدراجة كرجل من الطبقة الوسطى ذى وظيفة مرموقة وتعليم عالٍ يلاقى حفيظة أو سخرية البعض؟ يقول مصطفى: «أحيانا تحدث بعض الأمور المضحكة..لكن التشجيع والثناء الذى لاقيته كان أكثر.. ربما تشكو البنات اللاتى أقدمن على استخدام الدراجة من سخافات أكثر».
مشهد راكبى الدراجات ليس مشهدا مألوفا فى القاهرة مقارنة بمدن أخرى فى العالم. ففى باريس مثلا تنتشر منذ عام 2007 شبكة من 20 ألف دراجة فى 1450 محطة بمعدل محطة كل 300 متر متاحة للاستخدام العام فى مبادرة لتقليل الاعتماد على وسائل النقل التى تلوث البيئة، وأيضا لربط أكثر فاعلية بين نقاط وسائل المواصلات العامة. المبادرة الفرنسية لنشر استخدام الدراجات وهى الأكبر على مستوى أوروبا والثانية على مستوى العالم بعد مبادرة مدينة هانجز هاو الصينية يستفيد منها يوميا ما بين 50 و150 ألف مستخدم من سكان باريس الذين يتجاوز عددهم المليونى نسمة بقليل. بدأت المبادرة معتمدة على التبرعات الأهلية ثم تلقت دعما من الحكومة الفرنسية، كما بدأت مجانية بشكل كامل ثم صار استخدام الدراجات مقابل أجر رمزى عن طريق العملات المعدنية أو اشتراكات الكروت الذكية، فمبادرات الدراجات التشاركية تنتشر فى مدن أوروبية عدة، كما تنتشر أيضا فى مدن أمريكية وآسيوية، وإن كان يتفاوت نطاق انتشارها.
المتحرش لا يرفع صوته
«رووت فاندوالا» فتاة بلجيكية مقيمة فى القاهرة منذ عام 2009 كانت تفتقد دراجتها البلجيكية بشدة. «فى بلجيكا لم أكن استخدم أى مواصلات سوى الدراجة داخل المدينة أو القطار بين مدينة وأخرى.. لم استخدم أبدا سيارة». حين جاءت روت للقاهرة لإتمام بحث خاص برسالة الماجستير التى كانت تعدها، اعتمدت على استخدام مترو الأنفاق أو التاكسى، إلا أن كلتا الوسيلتين كانت مشكلتهما الزحام، «المترو مثل علبة السردين.. والزحام قد يعطلنى نصف ساعة فى مسافة يفترض أن تستغرق دقائق». قررت رووت منذ شهرين شراء دراجة قاهرية عوضا عن دراجتها البلجيكية، ومنذ ذلك الحين وهى سعيدة جدا! «أعتمد على الدراجة بشكل كامل، واستخدمها للانتقال من المنيرة إلى وسط المدينة، وأيضا من وسط المدينة إلى الزمالك، إذ تستغرق المسافة 15 دقيقة على الأكثر.. الآن أنا أتحكم فى مواعيدى لا زحمة السير».
لا تشكو رووت من مضايقات بعينها بسبب استخدام الدراجة، وتعتبر أن المضايقات قد تحدث سواء إن كانت تستخدم الدراجة أو تسير على قدميها أو تركب المترو. كما أنها حين تمضى بسرعة الدراجة لا تسمع ألفاظ المتحرشين التى تسمعها أحيانا وهى تسير على قدميها، فالمتحرشون يخجلون من رفع صوتهم بالألفاظ البذيئة ويلجأون للهمس وهو ما لا تسمعه وهى تطير بالدراجة. تعتبر رووت أن مجمل ردود الأفعال من المارة تكون فى نطاق الدهشة أكثر منها الاستنكار، ولازالت تذكر أكثر ردود الأفعال الإيجابية: «واحدة ست مرة قالت لى: قشطة عليكى.. هو دا»، هكذا نطقتها رووت التى تتقن اللهجة المصرية إلى جانب إجادتها للعربية الفصحى.
يتفق معتز عطا الله خبير السياسات التعليمية وأحد رواد فن استاند آب كوميدى مع رووت فى عدم الاعتماد على السيارة الخاصة كوسيلة مواصلات، إلا أنه وجد صعوبة فى الاعتماد على الدراجة أيضا. «كنت استعمل الدراجة كوسيلة انتقال خلال ال18 يوما الأولى للثورة.. إلا أن الأمر يحتاج لمجهود.. كما أن الدراجة ليست عملية فى المسافات الطويلة، خاصة إذا كنت لا أرتدى ملابس خفيفة ومريحة». بعد عشر سنوات من الاعتماد على سيارته بشكل دائم، قرر معتز أن يشترى «سكوتر» أو فيسبا وهو مثل الموتوسيكل، لكنه أصغر وأقل تكلفة. «تبدأ أسعار السكوتر من 6 آلاف جنيه، ويستهلك وقود بحوالى 10 جنيهات أسبوعيا وهى تكلفة لا تقارن باستهلاك البنزين أو أجرة التاكسيات، كما أنه سهل الاستخدام من حيث القيادة وأيضا إيجاد أماكن الركن، ويمكن قيادته بسرعة 100 كم فى الساعة.. باختصار السكوتر وسيلة انتقال مثالية داخل المدينة، يمنحنى حرية حركة وخصوصية، دون عناء البحث عن ركنة للسيارة، ودون عكننة التاكسيات، كما أنه يخفف من عناء التوقف فى زحمة السير لأنه يمر بسهولة بين حارات السيارات».
أصدقاء السكوتر
كلام معتز يتطابق مع ما ورد فى صفحة مجموعة راكبى السكوتر بالإسكندرية (Alexandria Scooter Rider Club ) على فيس بوك والتى تم تأسيسها فى يوليو 2011 لنشر استخدام «السكوتر» كوسيلة مواصلات غير مكلفة وصديقة للبيئة. تهدف المجموعة إلى كسر الحاجز الثقافى الذى يمنع الرجال والنساء من الإقدام على استخدام «السكوتر»، فأعضاؤها منهم أطباء ومهندسون وموظفو بنوك اختاروا استخدام وسيلة مواصلات غير السيارة الخاصة. المجموعة تضم أيضا سيدات تستعملن «السكوتر» بشكل يومى، بل ويستخدمنه لتوصيل أطفالهن للمدراس.
«أريد وسائل نقل مريحة ونظيفة وغير مرهقة مادية»، هكذا تقول زينب مجدى المعيدة بجامعة القاهرة والتى بعد أن تلقت دروسا فى قيادة السيارات قررت أنها لا تريد ممارسة القيادة ولا امتلاك سيارة. «القيادة فى الزحام مرهقة، كما أن إيجاد مكان لركن السيارة أمر ليس سهلا، السيارة بالنسبة لى عبء». وتعتبر زينب أن مترو الأنفاق وسيلة مواصلات مثالية: «لو بس المترو يوصل فى كل حتة!» وتتمنى أيضا لو يمكنها قيادة دراجة إلى محطة المترو بدلا من ركوب تاكسى، وإن كانت غير واثقة من رد فعل ساكنى حى الهرم حيث تسكن تجاه قيادة شابة مثلها دراجة. وتتذكر زينب أنها حين زارت إحدى مدن ألمانيا وجدت أماكن مخصصة داخل المترو للدراجات.. إذ يقود الراكب دراجته ثم يصطحبها معه داخل المترو، فضلا على وجود حارات مخصصة لسير الدراجات فى الشوارع. فالاعتماد على قيادة الدراجات جنبا إلى جنب مع شبكة مترو واسعة سيكون أمرا مثاليا بالنسبة للكثيرين، فى رأى زينب. كما أن هنالك حارات مخصصة لسير الدراجات لتوفير قدر أكبر من الشعور بالأمان لراكب الدراجة فى شوارع مصر، التى تشهد سنويا آلاف حالات الوفاة الناتجة عن حوادث السير. تتذكر زينب «الأتوبيس المكيف» أو كما يدعوه أبناء الطبقة الوسطى ال«سى تى آيه» الذى بدا كوسيلة مواصلات مناسبة ومريحة تمكنها من الانتقال من الهرم إلى مصر الجديدة مقابل جنيهين، إلا أن أحوال الأتوبيسات تدهورت وصارت مزرية، فضلا على أنه لم يكن أبدا يسير طبقا لمواعيد ومحطات محددة «كان ممكن أنتظر الأتوبيس ساعة.. ساعتين.. المترو أفضل برضه». تشير زينب إلى أن شبكة مواصلات فعالة ستعنى اعتماد أقل على السيارات الخاصة وتلوث أقل، وبالتالى إمكانية أكبر لاستخدام الدراجات، فمن مشكلات استخدام الدراجات فى رأيها استنشاق كل هذا العادم الذى يحيط بنا. «لماذا لا يكون هناك قانون يجبر السيارات على الاعتماد على الغاز بدل البنزين؟» سؤال تطرحه زينب. ربما لا يمكن التخلى عن السيارة الخاصة بشكل كامل خاصة لأولئك المضطرين للانتقال عبر ضواحى القاهرة والجيزة والمدن الجديدة، إلا أن مبادرات مثل التى تدعو لتشارك سيارة واحدة فى الانتقال بين زملاء العمل أو الاعتماد على تقاسم تأجير تاكسى للانتقال اليومى ما بين العمل والمنزل (مما يعنى عمليا استخدام سيارة واحدة تعمل بالغاز بدلا من 3 أو 4 تعمل بالبنزين).. كل تلك المبادرات تسهم فى تخفيف الزحام والتلوث والضغط العصبى المصاحب لقيادة السيارة. كما أن أزمات الوقود واحتمالات رفع الدعم عن بعض أنواعه قد تدفعك عزيزى قائد السيارة إلى التفكير فى التخلى عنها لصالح بدائل عملية أكثر.
مواطنون بلا سيارات ورؤساء بلا مواگب
لا تتجاوز نسبة من يملكون مركبة خاصة (كل ما يسير على أربع عجلات ويعمل باستهلاك الوقود) 9% فحسب من سكان العالم. وقد توقع بحث علمى أجرى بالتعاون بين صندوق النقد الدولى وجامعتى «يال» الأمريكية و«ليدز» البريطانية أنه بحلول عام 2030 سيكون هناك فى العالم 2 مليار مركبة خاصة، وسيكون أكثر من نصفها فى الدول الناشئة/النامية هذا لو استمر الأمر بمعدل ونمط النمو الحالى.
وتشير الإحصاءات إلى أن الاستثمار فى شبكات مواصلات عامة فعالة يمكن لسكان المدن الاعتماد عليها سيقلل من نسبة ممتلكى السيارات الخاصة، وأيضا سيقلل من الطلب العالمى على الوقود، كما سيقلل من نسبة التلوث الناتج عن عوادم المركبات.
بخلاف شبكات المواصلات الفعالة ربما يحتاج الأمر أيضا إلى قدر من التفكير خارج السياق والخروج عما توارثه أبناء الطبقة الوسطى والعليا فى بعض المجتمعات ومنها المجتمع المصرى من التمسك بضرورة اقتناء سيارة خاصة باعتبار أنه «الأمر الطبيعى» لأبناء طبقتهم. ذلك التفكير خارج السياق هو ما جعل الرئيس الفرنسى الجديد فرانسوا أولاند لا يتخلى عن دراجته التى طالما استعملها فى تنقلاته عقب فوزه بمنصب الرئاسة الذى يضمن له موكبا كاملا من السيارات لا تنتظر فى الزحام. أولاند الذى شوهد يستخدم دراجته مرتديا ملابس صباحية بسيطة بعد أيام من إعلان فوزه بالرئاسة لا يملك سيارة خاصة، وكان يستخدم موتوسيكلا للتنقل أثناء جولاته الدعائية بين المدن الفرنسية.
لا يتفوق على أولاند سوى رئيس الوزراء الهولندى مارك روتتى الذى يقود دراجته إلى مقر عمله رئاسة الحكومة الهولندية مرتديا بدلة رسمية ورابطة عنق. يضرب روتتى مثالا عمليا لتخفيض نفقات دولته والحفاظ على بيئتها، كما يضرب مثالا فى أن تصرفا فرديا بسيطا يمنح صاحبه مصداقية فى الحديث عن سد عجز موازنة حكومته حين لا يُحمل هذه الموازنة تكاليف لا مبرر لها فى مواكب لانتقالاته، كما يلهم آلاف آخرون عبر العالم.
«هل نرى يوما رئيس دولة عربية يركب دراجة؟ هل نرى مدير او رئيس أى هيئة فى دولة عربية يفعلها؟» تعليق ورد على أحد المنتديات الإلكترونية مصاحبا لصورة روتتى.
ربما شوهد بعض المشاهير العرب يقودون دراجاتهم خلال إجازات أو رحلات ترفيهية، إلا أن أيا منهم لم يتخل بعد عن موكبه الرسمى أو يشارك فى الدعوة لإيجاد بدائل للسيارات كوسيلة نقل. على الجانب الآخر من العالم، حيث تحتفل عدة مدن أمريكية وكندية بيوم قيادة الدراجة إلى العمل Bike-to-Work Day فى 18 مايو من كل عام، شارك توم بيتس عمدة مدينة بيركلى الأمريكية هذا العام بقيادة دراجته مسافة 4 أميال مع الآلاف من الموظفين الذين توجهوا إلى أعمالهم باستخدام الدراجة. بيتس الذى يبلغ من العمر 74 عاما صرح بأنه باع سيارته حتى «يسير على الأقدام ويركب الأتوبيس أو يقود دراجة.. يتنسم هواء المدينة ويسمع صوتها جيدا.