كان القطاع التجارى فى الولاياتالمتحدة على شفا الانهيار منذ حصل الانهيار المالى فى الخريف الماضى، غير أن الإرهاصات الأولى للانتعاش تثير هجوما رأسماليا مضادا. هذا هو أحد أسباب ضرورة تصدى الرئيس أوباما لشبكة فوكس نيوز، الإمبراطورية الإعلامية اليمينية، والزعماء الجمهوريين فى الكونجرس ذوى الأسماء غير المعروفة بالنسبة للكثير من العامة. وهو إلى حد كبير السبب وراء إعلان الغرفة التجارية الأمريكية فى الأسبوع الماضى عن أن «حملة المشروع الحر» يمكن أن تكون من بين أكثر التطورات السياسية منطقية هذا العام. وفى الحقيقة، ما يقصدونه من وراء هذه الحملة «الآن تبدأ المقاومة الحقيقية لأوباما!»... فمادام الاقتصاد العالمى ينهار فإن الاستثمار يتراجع، وهو ما يستدعى الترحيب بضخ مئات المليارات من الدولارات الحكومية لإصلاح النظام. وكان قادة الاستثمار، مثلهم فى ذلك مثل الجميع، خائفين للغاية، ولذلك رحبوا بجهود الحكومة الهائلة لتمكين البنوك من الاستمرار فى عملها، واجتذاب القوة الشرائية للمستهلكين. وهذه إشادة وحيدة بالنجاح قصير الأجل الذى حققته جهود أوباما لإنعاش السوق، حتى إن جماعات الدفاع عن مصالح المستثمرين لا تتردد فى العودة إلى عقيدة الزمن القديم، المتمثلة فى مهاجمة الحكومة وكيل المديح للسوق الحرة. ولعل القارئ يتوقع أن يبدى رجال الشركات قليلا من الامتنان للحكومة التى أنقذتهم. غير أن ذلك لم يكن سلوكهم أبدا.. بدلا من ذلك، سوف يدعون بأن الشهور التسعة الأخيرة كانت مجرد كابوس. وها هو هجوم الغرفة التجارية الجديد. فقد حاول توماس دونوهيو رئيس الغرفة وكبير المسئولين التنفيذيين، فى بيانه لإعلان الحملة، أن يمر على فترة التعاسة الأخيرة مرور الكرام، بأسرع ما يمكن. وقال «كانت الظروف الاقتصادية الأليمة مبررا بالتأكيد لبعض تصرفات حكومية خارجة عن المألوف لعلاج الأمر».. وأضاف «ولكن كفى.. فإذا لم نوقف النفوذ سريع التزايد للحكومة على نشاط القطاع الخاص، سوف نبدد طاقة أمريكا التى لا نظير لها على إبداع وخلق مستوى معيشى ومجتمع حر كانا موضع حسد العالم». وبشعار «كفانا ما جرى» المقدس فى السياسة الأمريكية، كان دونوهيو، يحاول رسم خط فاصل بين التداعى الذى وقع بالأمس، والاستقرار النسبى اليوم. ومعنى ذلك أن الخطر زال، وأن الإصلاح الحقيقى بعيد المدى ليس ضروريا، وأننا نستطيع العودة، بالمعنى الحرفى للكلمة، إلى الاستثمار والسوق المتوحشة بالشكل المعتاد. وتحسن إدارة أوباما التى تسير الأمور وفق رؤيتها حتى الآن صنعا، إن هى أخذت إعلان الحرب هذا على محمل الجد. فحتى الآن، استطاع أوباما أن يحتل المساحة الوسطى الواسعة فى السياسة الأمريكية. والكثيرون، الذين استاءوا من الطريقة التى اندفعت بها الحكومة للإبقاء على تسيير عجلة الاقتصاد، تقبلوا مع ذلك ضرورة أن تتحرك واشنطن بجرأة. وحتى أولئك الملتزمين بالمشروع الحر نظريا عرفوا أن النظام انهار من الناحية العملية. ولكن عندما يطرح مناصر قوى للتحرر فى مكانة القاضى ريتشارد بوزنر مؤلفا بعنوان «فشل للرأسمالية»، يدرك المدافعون عن النظام أنه واقع فى مشكلة. وهذا هو السبب فى أنهم يصارعون من أجل العودة. والحقيقة أننا قد مررنا بهذه الحالة من قبل. ففى كتابها البديع «الأيدى الخفية»، تتبعت المؤرخة كيم فيليبس فين جذور اليمين المعاصر حتى زمن رد فعل سوق الاستثمار إزاء برنامج فرانكلين روزفلت «الاتفاق الجديد»، وهى تذكرنا بصعود «عصبة الحرية» الموالية لقطاع الاستثمار والمناهضة لروزفلت، وقد أدانت «الجنون الشرس» الذى انطوى عليه برنامج الاتفاق الجديد. ولعل خطاب العصبة مألوف، وإن كان مفرطا فى الحماس. فهو يقول فى أحد بياناته: «يتعرض رجال الأعمال للإدانة رسميا باعتبارهم «جشعا منظما» و«صيارفة بلا ضمير» وهم «يسطون» على حريات الشعب...إن أسنان تنين صراع الحرب الطبقية يتم اقتلاعها بانتقام». ويمكن أن نحترم دونهيو رئيس الغرفة التجارية بسبب تجنبه هذه الاستعارة المختلطة البشعة، بيد أن هناك أسنانا حقيقية فى تهديده المبطن لبرنامج أوباما المتمثل فى فرض قواعد جديدة على نظام انحرف عن الطريق الصحيح. ومن بين ما تعهدت به الغرفة التجارية « القيام بتحرك قانونى لمواجهة التنظيمات الحكومية غير الدستورية وغير المطابقة للقانون». فهل ينبئ ذلك بمعركة بين رئيس تقدمى ومحكمة عليا محافظة؟ مرة أخرى، تبرز أوجه شبه مع «الاتفاق الجديد». ويفضل أوباما تجاوز الصراع، بدلا من مواجهته. فهو حريص على إظهار نفسه فى صورة المدافع عن «المشروع الحر» (كما فعل فرانكلين روزفلت)، وعلى الإصرار على أن المصادفة المؤسفة وحدها جعلت منه حكما على مصير البنوك وشركات السيارات. غير أن المفارقة تتمثل فى أنه إذا استمر الانتعاش، مثلما يأمل أوباما، سوف يضعف التأييد للتغيير، وسوف يتجرأ أولئك الذى هددهم التغيير، وسيعاد إحياء الشعارات التى فقدت مصداقيتها مؤخرا. ومن ثم، فالخطر الكبير على خطط أوباما لا يأتى من الحزب الجمهورى، وإنما للأسف من مدى قِصَر أجل ذاكرتنا. (c) 2009, Washington Post Writers Group