إذا ما ذهبت تبحث فى معرضها المقام حاليا بقاعة سفرخان عن جديد نازلى مدكور بعد الثورة المصرية، فلن تجد أثرا لألوان العلم المصرى أو صور الشهداء أو جموع البشر المطالبين بالحرية والعدل. سوف تخذلك الفنانة تماما بلوحات تحمل ورود الربيع وتخط ملامح المرأة فى حالاتها المتباينة. فنازلى مدكور ليست من هؤلاء الفنانين الذين ينفعلون بالحدث فيعبرون عنه بشكل مباشر، وحتى حين تعطى عنوانا لمعرضها هو «تحية للمرأة»، قد يحيلك العنوان على الفور إلى صورة المرأة التى انتهكت فى أحداث مجلس الشعب، وإلى كم ما وقع عليها من غبن خلال سنوات طوال مما تستحق عنه بجدارة «تحية للمرأة». لكن الفنانة تترك كل ذلك جانبا لتنسج من الواقع عالما فنيا موازيا يسترشد بما يدور اليوم، والآن ليبلور أسئلة أكثر عمقا، حيث يدعوك المعرض أن تدرب نفسك على الغوص فى عالم اللوحة الداخلى ومحاولة الربط بين مجمل الأعمال المعروضة وبين مسيرة الفنانة نفسها. فى معرضها العام الماضى بقاعة أفق واحد بمتحف محمود خليل وحرمه، الذى أقيم فى شهر مايو وبعد مرور ثلاثة أشهر على سقوط رأس النظام، فاجأت مدكور الجمهور بمعرضا غزيرا يرسم ملامح حدائق ورود وأشجار ذات أوراق وارفة، لم تكن هذه الأزهار المبهجة هى احتفاء بالثورة، فقد عكفت عليها الفنانة منذ عامين قبلها، لكنها بدت كما لو كانت بشارة الفنانة الرهيفة التى أطلقت على معرضها عنوان «وأتى الربيع». فقد توغلت الفنانة فى اللحظة حالكة السواد التى تعيشها الأمة، لحظة تفشى الظلم والفساد والجمود الفكرى، فلم تنقلها لتعكس للمتلقى الحال كما يراه لحظة بلحظة، بل راحت تفتش كما هو منهجها دائما فى تضافر التاريخى بالاجتماعى السياسى، فتبدى لها بصيصا من النور ومتنفس من أمل عبرت عنه بفرشاتها حتى إذا أتمت لوحتها الخمسين كان الربيع العربى قد هّل بشائره بالفعل.
أما فى معرضها الجديد، فقد تجاورت وجوها لفتيات وسيدات مع لوحات الزهور، لتدعونا لقراءة الواقع من جديد من خلال عالمها التخيلى، فمثلما عكست الورود الانفراجة القريبة والحاجة الملحة للحرية، فإن وجوه المرأة فى هذا المعرض تبشر بغد أفضل تستعيد فيه دورها الرائد الذى يتسرب شيئا فشىء، حيث تتراوح نظرات العيون ما بين التسليم والحزن تارة والصبر والمثابرة تارة، ولا يغيب عنها فى معظم الأحيان بدايات ابتسام على الشفاة، ابتسامة المرأة الواثقة العارفة أن الفجر قادم لا محالة حتى وإن تيبست تقاسيم وجهها جلدا وصبرا. حيث تقول نازلى مدكور عن أعمالها الجديدة: «هذا المعرض تحية إلى المرأة المصرية، تحية لمجدها، واحتراما لمعاناتها ولكرامتها. الزهور فى هذه المجموعة قرابين ترمز للفرحة والأمل أحيانا، وللحزن والمثابرة أحيانا أخرى». أرادت الفنانة من خلال هذا التجاور فى معرضها أن تؤكد الأسطورة القديمة التى بموجبها تأتى بيرسيفونى (عشتار) إلهة النبات من العالم السفلى مع قدوم الربيع لتضفى البهاء والنماء والبهجة على الأرض.
شغلها موضوع المرأة منذ أن بدأت مسيرتها الفنية فى الثمانينيات، واتسع عالمها الفنى ليشمل الطبيعة خاصة الصحراء والمرأة كنموذج للإنسان، كما تعرفه بعمق ويتيح لها أن تنسج عالمها الشعرى بمفرداته المجازية حول المرأة الأم والأرض ومصدر الكون، وهى التى جمعت أيضا إنجاز المرأة المصرية الفنى بين دفتى كتاب «المرأة والفن فى مصر» لتقتفى أثر اسهاماتها منذ عصور القديمة والعصور القبطية واسهاماتها فى الريف والحضر والنوبة حتى العصر الحديث.
وعلى مستوى التشكيل، لجأت نازلى مدكور إلى طبقات اللون الكثيفة، إلى تضاريس اللوحة لتعكس طبقات الأرض المتتالية فى تكوينات الصحراء، وتحيل إلى الفعل التراكمى الذى يدعو المتلقى إلى الولوج إلى العالم الداخلى والتفاعل مع ما تطرحه اللوحة من أحاسيس. وفى هذا المعرض استخدمت نفس التقنية التى تميزها، فى تصوير المرأة الشعبية أو المرأة الفلاحة فى حالاتها المختلفة، وبدت كثافة المعاجين وطبقات اللون الغائر والمسطح مثل الحفريات والأعمال التى أضفى الزمن بظلاله عليها، كما لو كانت تحيلنا إلى تاريخ طويل من نضال المرأة المصرية شهد عصور زهوه وتفتحه على مر التاريخ، ومسته موجات الانغلاق والتأخر، لكنه كان سرعان ما يشد عوده من جديد. تتركك المرأة الخضراء ببداية ابتسامة على شفاهها تعدنا مدكور باكتمال فرحتها تماما مثلما بشرتنا فيما قبل باتيان الربيع.