لن تفوتك هذه الأيام كلمات «الربيع»، والزهور التى تفتحت فى جناين مصر، والربيع العربى فى إشارة إلى الثورات العربية، أو ثورة الياسمين كما سميت الثورة التونسية. أما ربيع نازلى مدكور، أو معرضها الذى يحمل عنوان «أتى الربيع»، فهو الربيع الفعلى فى معناه الأولى، حيث تتفتح الورود والنباتات من خلال 52 لوحة تبرز مفاتن ألوانها وتكاد تبعث عطرها فى أرجاء قاعة أفق واحد بمتحف محمود خليل بالجيزة. يحيلك العنوان «أتى الربيع» مباشرة إلى الحس الاحتفالى بالمنجز الثورى بعد انتظار طال، تؤكده بهجة الألوان وتحرر الأشكال والتكوينات، وسيتضح لك بعد قليل أن الأعمال ليست تعبيرا انفعاليا لحظيا صاحب فرحة الحرية، بل تشير تواريخ الأعمال إلى عامى 2009 و2010، حيث كانت الفنانة قد أقامت آخر معارضها فى 2009 وتفرغت لعمل المنظر الطبيعى بمفهوم خاص وكان محددا لهذه الأعمال أن ترى النور فى27 فبراير الماضى وتم تأجيل المعرض فى ظل أحداث الثورة. بل كانت تنتوى إلغاءه تماما كما توضح ل«الشروق» قائلة : «كان من الصعب جدا الشروع فى أى عمل بعيدا عن الأحداث، كان ذهنى وتركيزى منصبين فى خط واحد فقط»، أما الآن فقد استعادت الحياة إيقاعها شيئا فشيئا وأتاحت شيئا من البهجة التى تدعو إليها الأعمال. فقد أتى الربيع أيضا مسيرة نازلى مدكور الفنية ليس فقط داعيا الفنانة إلى التمرد على الموضوعات التى تناولتها من قبل، بل محدثا ثورة فى مجموعات الألوان التى تستخدمها، حيث يعد هذا المعرض من أكثر المعارض زخما بالألوان فى مسيرتها التى ضمت أربعين معرضا فى مصر وخارجها. فتلجأ الفنانة إلى مجموعات الوردى والأخضر والأصفر والبنفسج والأزرق السماوى الصريح، لكنها لا تتخذ ملمحا كرنفاليا صارخا، بل تعمد الألوان هنا إلى نوع من «المحافظة»، إلى عمق ودفء المشاعر من ناحية وإلى علاقتها بالتكوين المائل للضبابية من ناحية أخرى، وقد يبهرك أيضا تكرار تيمة البنفسج فى أكثر من عمل، فتلوح فى الأفق أصداء صالح عبدالحى يهمس لك «ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين». يصبح اللون وسيلة للولوج إلى عمق اللوحة، عبر طبقات الأصفر والأخضر الشفيف والتركواز المائى، فى مقابلتها للألوان الصريحة. فقد عرفت دائما أعمال نازلى مدكور بتقنية الطبقات اللونية الكثيفة وعلاقتها بملمس وسطح العمل الفنى، بحيث تبرز عمق اللوحة ومستوياتها المتعددة، وكان ذلك واضحا فى مجموعات أعمالها التى تتناول العلاقة بالأرض بمعناها الفلسفى، وعلاقة الانسان بطبقات القشرة الأرضية، ولم تكن الألوان تتجاوز المجموعات الترابية البنى والأرضى ولون الصحراء. أما فى معرضها الحالى فقد فرض موضوع الطبيعة والنباتات رقة وخفة جعلتها تستخدم فكرة الطبقات ليس فى تراكمها المعتم والبارز ولكن فى شفافيتها وإبراز الانعكاسات والاضاءة الداخلية للون. حيث تؤكد الفنانة نفسها هذا الميل قائلة إن عمق اللوحة يتأتى ليس من خلال المنظور التقليدى، ولكن من خلال الطبقات الشفيفة التى تحيل كل منها للأخرى. لحظة ميلاد الفورم أما لماذا دخلت الألوان عالم مدكور تزلزل مفرداته، من عالم الصحراء والأرض الطينية والكثبان الرملية وأفق النخيل البعيد إلى عنفوان الربيع وتجلياته؟ لا تعرف الفنانة المجددة إجابة للسؤال، هل هى بهجة داخلية استحالت ورودا للربيع، أم ميل لا إرادى لتلوين الفراغ من حولها. كل ما تعرفه أنها فى بحثها الفنى الدءوب، تظل مخلصة ووفية لسؤال محورى وضعته منذ البدايات حول العلاقة الدقيقة والمعقّدة بين العالم الخارجى وعالمها الداخلى. صحيح أنها فى مشوارها الفنى الذى بدأ منذ 1982 بعد دراسات فى السياسة والاقتصاد ثم تحول نحو اللغة التجريدية فى الفن، تخللتها لحظات تشخيص ومزيج من الاثنتين، اختارت موضوع الطبيعة، لكنها ليست الطبيعة التى شغلت سابقيها على مر العصور، لكنها الطبيعة الحاملة لأسئلة فلسفية عن حياة الانسان المعاصر، وكان التجريد وبالأخص تقنيات الملمس ما بين خشونة ونعومة السطح والتراكيب والفراغات هو عماد هذه المسيرة. أو كما تفسر الفنانة هذا المنحى قائلة: «ألجأ للورود وأوراق الشجر ليس لهدف ظاهرى أو لمجرد رسم مفردات الطبيعة، أو لأنه موضوع تنامى من خلال رسم أشجار النخيل فى لوحاتى السابقة، ولكن دائما ما يكون الموضوع والتقنية والشغل على ملمس اللوحة ذريعة فنية للولوج إلى العالم الداخلى». مما يشى بالعديد من الاجابات المحتملة منها حلم الفنانة ونبوءتها بحتمية إتيان الربيع رغم الخريف الحالك الذى دام ما يزيد على الثلاثين عاما، ومنها هذا الاتجاه الواضح فى الأعمال نحو الشعرية التجريدية حيث تغوص الفنانة فى عالمها الداخلى متشبثة بعالم متخيل بهيج يصارع الواقع الضاغط. فتكتب نازلى مدكور فى مقدمة كتالوج المعرض: «تبرز على سطح لحاتى شظايا لأشكال نكاد نتعرف عليها لكنها تذوب فى ثنايا اللوحة، أما خشونة التضاريس والملامس فتعمق من مادية الواقع، بينما تعبر البقع اللونية والمساحات المائية عن حساسية حالمة». هذه الحساسية الحالمة كما تسميها أو الشعرية التجريدية تتجلى فى اختيارها للفورم الواقع على حدود التجريد والتشخيص، بحيث تبدو الزهرة أو ورقة الشجر كما لو كانت الفنانة قد اقتطفتها عبر لقطة مقربة لكاميرا متخيلة فتعاظمت فيها الأحجام، وغلفتها رؤية ضبابية كما لو كان هناك حاجز شفيف قوامه الماء يجعل الشكل متأرجحا بين الواقع والحلم. فتبدو كمن تحاول أن تمسك بلحظة ميلاد الشكل، وألق البدايات وسحر التكوين، فتدهشنا فى كل مرة بربيع جديد. يستمر المعرض يوميا حتى 18 يونيو2011 من الساعة العاشرة صباحا الى التاسعة مساء ما عدا أيام الجمعة.