يبدو أننا قد ظلمنا أجدادنا كثيرا.. تارة بتكلسنا الإنسانى والتقدمى بين الأمم، راضين بالمرتبة المتدنية التى وصلنا لها والتى لا تليق بتاريخ هؤلاء المصريين القدماء الذين جابوا الفلك دراسة وعلما، فى الوقت الذى نغرق نحن فيه داخل سباق «أنابيب» البوتاجاز! ظلمناهم حتى ونحن فى «مصر الثورة» بعد أن اكتفينا باقتباس مفردة «الفرعون» من قاموسهم كمرادف للحاكم الظالم الديكتاتور، وجعلنا غاية الثورة ألا يحكمنا «فرعون» جديد، وكأن القاموس السياسى الهيروغليفى قد فرغ إلا من ظلم الفرعون للعبيد، ولا يحمل ملاحم لحكام وفراعين ملهمين عظمتهم محبة شعوبهم، وهو الأمر الذى يعكس «فجوة بين الشارع والتاريخ، فحضارتنا لم تكن حضارة عبيد» وهو ما قاله الفنان علاء عوض الذى قرر أن يكون سفير الأجداد فى يوميات مصر المعاصرة، يستلهم رسائل من التاريخ ليوجد بها منارة فى غربة اليوم، يخرج ألوانه وقبلها جزء من قلبه المتيم بمصر الفرعونية ويرسم على الجدران لوحات فريدة تنقلك إلى قلب معبد قديم فى البر الغربى.
التراث والحدث
لم يعد غريبا وأنت فى وسط البلد تعبر شارع محمد محمود «الشهير» أن تجد المصريين قبل الأجانب يلتقطون صورا فوتوغرافية لهم ولأصدقائهم أمام لوحات الجرافيتى التى ملأت جدران هذا الشارع مدونة الكثير من يوميات الثورة، من بين أبرز هذه اللوحات تلك الجدارايات التى تحمل نقوشا ورسوما فرعونية على مساحات كبيرة، وحسب صاحب هذا العمل الفنى علاء عوض فإن لوحات الجرافيتى تلك هى «محاولة لإعادة صياغة التراث المصرى وعلاقته بالحدث السياسى، وذلك من خلال إيجاد تصوير جدارى إيجابى يتناسب مع الحراك السياسى والاجتماعى الموجود على الساحة»، إعادة صياغة التراث التى يطرحها عوض فى حديثه ل«الشروق» طرحها من خلال عدة لوحات منها لوحة أطلق عليها «الحرائر» التى رسمها فى أعقاب أحداث «مجزرة» بورسعيد والأحداث التى عرفت بأحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود التى تم على إثرها تعرض عدد من المتظاهرات للاعتداء و«السحل»، وهو الذى انفعل به علاء عوض على هيئة جدارية تضم عددا من السيدات الفرعونيات وهن يحملن العصى فى مشهد احتجاجى، وهو مستوحى من مشهد حقيقى فى معبد «الرمسيوم» الجنائزى فى الأقصر الذى ظهر على أحد جدرانه مشهد تلك السيدات وهن فى طريقهن للملك يحذرونه من اعتداء وشيك على البلاد من جانب الهكسوس فى دلالة واضحة على دور المرأة فى مصر القديمة فى الحكم والدفاع عن البلاد.
التوريث فى مصر القديمة
لوحة أخرى لعلاء عوض أطلق عليها «الجنازة» وتصوّر جنازة حاشدة يحمل فيها تابوت لأحد الشهداء وفى جنازته «نائحات» يودعنه بالنحيب، ويحلق فوق التابوت «طائر الروح»، المعروف فى مصر القديمة، وفى السماء أعدت له «صينية من الشمع» لتستقبله برعاية «نوت» إله السماء عند الفراعنة، وهى مشاهد مستلهمة من الحضارة القديمة تؤازر دماء الشهداء التى سالت والأرواح التى زهقت مناصرة لثورة يناير، وفى جدارية أخرى تحمل اسم «المحاكمة» تجد ميزانا للعدالة «مقلوبا»، ولصوصا يحومون داخل المشهد، وملكة ترضع ابنها وهو «تعبير رمزى عن التوريث» حسب علاء عوض،الذى تبع هذه اللوحة بواحدة أخرى يظهر فيها قط وهو يقدم لفأر ضخم القرابين وذلك «تعبير عن أن من لا يملك يعطى لمن لا يستحق»، وأن حالة من عدم المنطقية كانت تسود الوضع العام الذى جعل من الحاكم الذى لا يستحق الحكم «يتضخم» بسبب نهب قوت الشعب.
يعمل علاء عوض مدرسا بكلية الفنون الجميلة بالأقصر وهو ما يجعله يقيم فى هذه المحافظة البعيدة أكثر مما يقيم فى مسقط رأسه المنصورة، وهو أيضا ما ضاعف عشقه لحضارة مصر القديمة بسبب تردده المستمر على معابد وآثار مصر القديمة التى تحيط الأقصر جاعلة منها مدينة «ثلث آثار العالم»، وكان يتردد على القاهرة كأى مشارك فى المظاهرات الشعبية فى ميدان التحرير مخلفا وراءه تجربة رائدة فى شارع محمد محمود بدأها فى أعقاب أحداث بورسعيد واستغرقت منه نحو 50 يوما من العمل، والآن يقوم بتجربة جديدة فى الأقصر حيث يقوم هذه الأيام برسم جرافيتى جديد مستلهم من أجواء الانتخابات الرئاسية التى نعيشها هذه الأيام، ويصور فيه أسدا يلعب ضد غزالة الشطرنج، فى إسقاط يكفى أن نشير إلى أنه جعل فيه من الغزالة رمزا للشعب!
إعلان سياسى
يواجه علاء عوض ومن مثله من عاشقى فن الجرافيتى عدة تحديات أبرزها الجدل حول مدى مشروعية التصوير الجدارى من الأصل، أو الرسم على الجدران بدون تصريح مسبق، يعقب عوض على ذلك بقوله إن «شوارعنا بشكل عام تفتقر للجماليات، ولذلك يكون التصوير الجدارى محاولة إيجابية لطرح طراز فنى من خلال الجرافيتى أو Street art الذى يحل محل الإعلان السياسى لمواجهة المشكلات الاجتماعية والسياسية بشكل فنى ورمزى»، أما التحدى الثانى هو التهديد المستمر للعمل الفنى الجدارى بالطمس فى أى وقت علاوة على عدم معرفة الناس بشخص القائم على الجرافيتى رغم إعجابهم بعمله «كثيرا ما أجد الناس تتطلع إلى الجرافيتى الذى قمت برسمه وأسمعهم يشيدون به ولكن نحن لا يشغلنا كثيرا المجد الشخصى، نحاول أن نقدم شيئا للثورة ولا نتاجر بها ولا يهمنا الظهور أبدا» واستطرد بقوله: «لا ننتظر مقابل لفننا، ونعرف أن المقابل قد يكون طلقة رصاص!».