فى دهاليز منطقة باب اللوق بوسط القاهرة، مازالت هناك آثار باقية لأيام زمان ومذاقها الخاص. فى قهوة الطباخين يكون الطهاة على موعد شبه يومى. الأقدم عهدا بالمقهى يبكون على أطلال عهد جميل قد ولى ويستعيدون وصفات تعلموها فى بيوتات الأسر العريقة كالعدس الأباظى بالدجاج التى اشتهرت به العائلة الأباظية. المقهى العتيق يرجع تاريخه إلى عام 1935وقد أسسه جد المعلم سيد- صاحب ومدير القهوة الحالى الذى كان يعمل طاهيا. لم يكن اختيار مكان القهوة وليد المصادفة، ولكن تم اختياره بعناية ليكون فى وسط المدينة على بضعة كيلومترات من حى عابدين، معقل السرايات والطبقة الارستقراطية فيما قبل ثورة يوليو 1952. سابقا لم يكن الهاتف يتوقف عن الرنين، فولائم الباشاوات كانت لا تنقطع وتوفر لجميع رواد المقهى مصدرا مؤكدا للرزق. وقد تكاتف الطهاة آنذاك لإدخال التليفون للقهوة حتى يتأتى الاتصال بهم. «فين أكل زمان وناس زمان وذوق زمان ؟» هكذا يتساءل عم صابر موسى الذى عمل كطباخ لدى الكثير من الأسر العريقة قبل الثورة، ثم لجأ للفنادق الكبرى فى مصر وتركيا. ويستطرد عم موسى الذى ترأس لفترة طويلة «جمعية 23 يوليو الخيرية للطهاة « واصفا ذوق المصريين فى الأكل: « الذوق انحدر بشكل مزر. فقد أصابت المطبخ المصرى هزة عنيفة بعد غزو المأكولات الأمريكية التى أسقطت الكثير من الأطباق المصرية من على مائدتنا. جرينا وراء الأجنبى بدافع عقدة الخواجة ولم نعتز بمأكولاتنا التى تمثل جزءا من شخصيتنا وثقافتنا. وأكثر من ذلك فقد اختلفت طرق الطهى، فبعد أن كان الكبابجى يشوى اللحوم على الفحم بحرفية شديدة ظهرت الشواية التى هى أسوأ وسيلة للطهى لأنها تجرد قطعة اللحم من فوائدها بل وتتشرب أيضا سموم السطح الذى تطهى عليه». من طاولة لأخرى قد لا تختلف الصورة كثيرا. محمود، مازال يتذكر أساتذته فى فن الطبخ، الرعيل الأول من طهاة الأطباق « العثمانلى» الذين تعلم على يديهم. «عبد العزيز الجمل الطاهى الخاص لوالد الكابتن صالح سليم، أحمد عبد الخالق من أهم وجوه فندق المينا هاوس، وعم حسن أبو داوود-طباخ زكريا محيى الدين ، هذا الجيل من الطهاة تتلمذ على يد الأجانب ومنهم الأتراك وكانوا أسطوات فى المأكولات الشرقية» ، من أهم الأشياء التى تعلمها من هؤلاء هو إصرارهم على استخدام كل ما هو طبيعى، فلم يلجأ أحد منهم- على حد قوله- للمرقة المكعبات أو الصلصة العلب. «الطباخ العثمانلى أصبح على شفا الانقراض بأدواته ووصفاته وحواديته بل ومريديه. والكثيرون منهم يعانون الفقر أو يموتون عوزا بعد أن عاشوا أيام عز فى قصور زمان. فقد كان كل باشا يتباهى بطباخه الخاص الذى كان يعد مكملا لمركزه الاجتماعى». بعيداً عن عزب الباشاوات من قهوة الطهاة إلى أحد محال الفول والطعمية الموجودة على الرصيف المقابل. مازال الطهاة يبكون أحوال المهنة. فهنا جاء للعمل الشيف خالد زايد (32 سنة) ، رغم حصوله على درجة الماجستير فى «الكوست كونترول» أو تكلفة الطبخ وجودته بالمطاعم. وقد التحق بالعمل بعد جلسة تفاوض ساخنة مع صاحب سلسلة مطاعم الفول والطعمية. كل أبواب الرزق أوصدت أمامه، خاصة مع التدهور الحالى الذى شهده قطاع السياحة بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية، فبعد أن عمل فى كبرى الفنادق وتخصص فى المطبخ الفرنسى وجد خالد نفسه مجبرا على أن يترك كل ذلك ليعمل بهذا المطعم. فقد وفرت بعض الفنادق والمراكب السياحية حوالى 60 فى المائة من طاقاتها، بل وخفضت مرتبات الطهاة من ثلاثة آلاف فى المتوسط إلى ألف وخمسمائة. ولا يقتصر الأمر على مصر - على حد قول خالد- لكن أيضا فى بلاد أخرى عمل بها مثل لبنان وتركيا وقبرص والسعودية والسودان وجنوب أفريقيا. يشاركه حسرته زميله الشيف حسن 36 سنة وإن اختلفت أسباب الحسرة. ويقول «لكى تعمل فى أى فندق خمسة نجوم اليوم يجب أن تصبح كالقرود الثلاثة : لا ترى، لا تسمع، لا تتكلم. فهناك تجاوزات كثيرة تحدث. فلتسوية اللحم وشيه جيدا يجب أن استخدم النبيذ. وبعد أن أنجبت طفلى الأول لا أريد أن تكون فلوسى حراما، لذا تركت الفندق واكتفيت بالعمل فى سلسلة محال الفول والطعمية حتى لو بنصف الراتب». وما يزيد الأمر سوءا هو ظهور الكثير من الدخلاء. يقول الشيف صابر موسى: «الطهى اليوم أصبح مهنة من لا مهنة له، كل من هب ودب أصبح له الحق فى التطفل علينا. وقد أدى ذلك لخفض الأجور، خاصة أن الناس لا تهتم بما تأكل، وبالتالى لا تقدر الخبرات والكفاءات الحقيقية. الكثيرون من خريجى معاهد السياحة والفنادق قد يحصلون على الدراسة النظرية لكن لما ينزلوا المطبخ راجل لراجل تجده لا يفقه شيئا. لا يعرف حتى يمسك سكينة لأنه ليس لديه خبرة وتجربة عملية». قد يتفق بعض شباب الطهاة من الجيل الجديد مع رأى الشيف صابر، لكن بعضهم يحاول تطوير أكلاته من خلال الإنترنت والكتب الأجنبية المترجمة. لا يقنع ذلك الشيف صابر الذى يضيف: «الوصفة المضبوطة للطبخة الحلوة يجب أن تراها تنفذ أمام عينك بمقاديرها وطرق عملها». حاولت الجمعية الفرعونية للطهاة أن تتدارك هذه المشكلات مبكرا، فأجرت دراسة حول مناهج الطهى فى معاهد السياحة والفنادق المختلفة لبحث أوجه القصور، ثم قامت بوضع منهج آخر يكفل التدريب العملى من خلال المطبخ الخاص بالجمعية. لكن المشكلة اليوم هو عدم وجود تواصل حقيقى بين أجيال المهنة الواحدة، كما يؤكد أحمد السيد- رئيس جمعية الطهاة. زمان كان الصبية الصغار يأتون من عزب الباشاوات ليتعلموا -كما يروى صابر موسى- فنون الطبخ على يد كبير الطهاة. أما اليوم فكل من لديه معلومة يريد أن يحتفظ بها لنفسه، لأنها ببساطة مصدر رزقه الذى «يعطيه بنط زيادة على حساب منافسيه» وفقا لرأى أحمد السيد الذى يضيف: «هناك تفاصيل فى حرفية الطهى تكاد تندثر مع موت الجيل القديم، فأكل الباشاوات القدامى مثل الديوك الرومى والحمام المحشى والأرز المعمر كان تخصص طباخى زمان. فمعضلة الحمام المشوى مثلا تكمن فى فصل جزء رفيع جدا من الأوانص قد يجعل الأرز شديد المرارة. هذه النصائح تعلمناها من الطهاة الكبار الذين كانت لديهم علاقة وطيدة بفنون الجزارة والخبيز وصناعة الحلوى إلى غير ذلك». هذه الأسرار والتفاصيل تكاد تندثر مع هذا الجيل الذى يشهد احتضار المهنة على نيران هادئة. والعديد ممن بقوا على قيد الحياة يعانون كثيرا من أمراض المهنة، على حد تعبير المعلم سيد- صاحب المقهى، فعم عبد العزيز مات من حساسية بالصدر نتيجة وقوفه فترات طويلة أمام الفرن، بينما أخذت الأفران العالية نظر عم سالم وأثرت أصوات تخبيط الأوانى سلبا على سمع عم صابر موسى.