"فرنستنا" عنوان طريف ودال لكتاب جديد بمثابة مجموعة حوارات وأحاديث بين مؤلفيه الأصدقاء الثلاثة الذين نشأوا خارج فرنسا واستقروا فيها لاحقا وحملوا جنسيتها فكأن حواراتهم هذه طريق إلى وعيهم "بفرنستهم ووسيلة بوح بكل غناها وتنوعها" . والمؤلفون الثلاثة هم فاروق مردم بك السورى المولد الذى انتقل إلى فرنسا منذ عام 1965 واستقر هناك ليعمل فى مجال النشر فضلا عن كونه باحثا ومؤرخا والياس صنبر الفلسطينى المولد والذى عاش طفولته فى لبنان وسافر إلى فرنسا عام 1969 للدراسة حتى اصبح ممثلا لفلسطين لدى منظمة اليونيسكو أما المؤلف الثالث فهو ادفى بلانيل الذى عاش طفولته وشبابه فى جزر المارتنيك والجزائر قبل أن يستقر فى فرنسا عام 1970 ويحترف العمل بالصحافة كما يقوم بتدريسها فى جامعة مونبيليه .
والكتاب أقرب للوحة تشع ذكاء وحساسية وإنسانية لمثقفين لهم حضورهم البارز على الساحة الفرنسية ويرفضون حروب الثقافات بمغالطاتها وتقسيم البشر على أسس عنصرية تجافى جوهر الثقافة الانسانية . وولدت فكرة الكتاب فى خضم فترة عصيبة من تاريخ فرنسا كثر فيها اللغط حول الهوية الوطنية وثوابتها فيما سعى كل مؤلف من المشاركين فى الكتاب لتحديد علاقته بفرنسا بتاريخها وجغرافيتها وثقافتها ومجتمعها وسياستها .
كما سعى المؤلفون لشرح الأسباب التى دفعتهم لترك أوطناهم والانتقال إلى فرنسا والبقاء فيها موضحين عبر الحوارات الأحداث والوقائع التى أوصلتهم إلى ماهم عليه الآن جنبا إلى جنب مع سرد غني لتجارب حياتهم ومرجعياتهم وأفكارهم بشأن قضايا ومسائل ملحة مثل الهجرة والمواطنة والانصهار فى المجتمع الفرنسى والتنوع الثقافى .
وفى هذا الكتاب الذى صدر بالفرنسية، يبدي المؤلفون الثلاثة شعورا بالقلق حيال القطيعة بين فرنسا والعالم الذي أتوا منه وأتى منه كثير من الأشخاص الذين أصبحوا مواطنين فرنسيين، فهم نتاج هذا العالم وشهود عليه .
وهم يضعون تجاربهم بعضها فى مقابل بعض كونها وليدة المنافى التى عاشها كل منهم وإن كانت مساراتهم متداخلة ومتشابهة أكثر منها متباعدة ومختلفة فيما "تلتقى فرنسا الحلم بفرنسا الضائعة" فى هذا الكتاب المكون من ثمانية فصول وخاتمة يحمل كل منها عنوانا لايخلو من شاعرية فضلا عن الدلالة .
ففى الفصل الأول :"ثلاثة مبعدين" يتحدث كل منهم عن نشأتهم وتكوينهم وتعلمهم وظروف انتقالهم إلى فرنسا بينما الفصل الثانى، وهو بعنوان : "فرنسا قبل فرنسا" يتناول رؤية كل من الأصدقاء الثلاثة لفرنسا وماذا كانت تعنى له على الصعيد الشخصي والاجتماعي والسياسي فضلا عن علاقتهم باللغة والثقافة .
والفصل الثالث الذى جاء بعنوان: "الوصول إلى بلد الأحلام" يتعرض للقاء الأول المباشر لكل منهم بفرنسا فى الواقع وانهيار الأفكار المسبقة وهو فصل يزخر بالحكايات المرحة والمضحكة .
أما الفصل الرابع فى الكتاب وهو بعنوان : "سنوات الانقلاب" فيتحدث عن باريس فى السنوات المفصلية العصيبة مثل ثورة الطلاب فى عام 1968 وقبله عام 1967 الذى شهد حرب الأيام الستة والعدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن وعلاقات مؤلف الكتاب بالمثقفين الفرنسيين .
وينتقل الفصل الخامس بعنوان :"لقاءات رفيعة" للصداقات وتعرف مؤلفى الكتاب على شخصيات هامة مثل جان جينيه وماكسيم رودينسون وجيل دولوز وجيروم ليندون فضلا عن علاقتهم بالشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش .
وفى الفصل السادس بعنوان :"نظرة سياسية" يعرض الأصدقاء الثلاثة للحياة السياسية الفرنسية على مر الأعوام وخاصة فى مجال السياسة الخارجية والتعامل مع القضية الفلسطينية، فيما يتناول الفصل السابع "الطبيعة والتذوق" ذكرياتهم وجولاتهم فى أحياء باريس والريف الفرنسي وعلاقاتهم الاجتماعية واهتمامهم بالمطبخ .
والفصل الثامن الذى جاء بعنوان :"مديح الاختلاف والتشابه" يتركز على الجدل والنقاشات الدائرة فى فرنسا منذ عام 2010 وحرب الثقافات التى تنطوى على تعصب عنصري يثير حفيظة كل من المؤلفين الثلاثة بما يدفعهم إلى تحديد مواقفهم فى حواراتهم على صفحات هذا الكتاب الذى تناولت خاتمته اندلاع الثورات العربية وأهمية الديمقراطية .
وستجد فى الكتاب تساؤلات محورية مثل: "مامعنى أن تكون فرنسيا وكيف تفهم العالم من منطلق كونك فرنسيا؟"، بينما يتفق المؤلفون والأصدقاء الثلاثة على أنه لايمكن تحديد الهوية الوطنية بمعزل عن محيطها وتاريخها ومسارها .