حفلت الانتخابات النيابية اللنبانية التى جرت يوم الأحد فى 7 حزيران «يونيو» 2009 بعدة ظواهر لافتة، كما كانت لها نتائج ذات دلالات تستحق المتابعة والاهتمام. أما أبرز النتائج فمسألتان: عودة الأكثرية النيابية التى فازت بانتخابات عام 2005 على إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريرى: 71 نائبا، فى مقابل 57 نائبا لتحالف المعارضة بزعامة حزب الله والجنرال عون. أما النتيجة الثانية فهى ظهور زعامة سعد الحريرى، ليس لأهل السنة فحسب، بل على مستوى الوطن، وفى قلب سائر الطوائف والفئات فى لبنان. ولنعد إلى الظواهر والظروف التى أدت إلى النتيجتين السالفتى الذكر. أول تلك الظروف التطورات السياسية والأمنية والاستراتيجية على مدى عامين، والتى بلغت ذروتها فى دخول حزب الله وحلفائه إلى بيروت بالسلاح فى 7 آيار «مايو» عام 2008. ومن المعروف أن مفاعيل ذلك الدخول إلى العاصمة ما اقتصرت على الذهاب إلى الدوحة بقطر من جانب الفريقين ولاتفاق من موقع القوة للأقلية على تشكيل الحكومة القائمة، وإقرار قانون جديد للانتخابات «أعتقد أنه لصالح الجنرال عون»، بل تجاوزت ذلك لتظهر صورة معينة للبنان للداخل والخارج، فى الداخل سادت حالة من الإحباط لدى المسلمين والمسيحيين من فريق 14 آذار «مارس». وفى الخارج ساد انطباع على المستويين العربى/ الإقليمى، والدولى، أن لبنان فى طريقه ليصبح حلقة فى سلسلة القوة والنفوذ التى تولت إيران فى السنوات الماضية مدها بالمنطقة العربية. وثانى تلك الظروف والظواهر تغير الأوضاع فى العالم والمنطقة نتيجة التوجهات الجديدة للرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما، والتى ركزت على العودة للقواعد والأعراف والحوار والتوافق فى المجالين الدولى والإقليمى. وأبرز مقتضيات التوجهات الجديدة فيما يتصل بالسياسات الأمريكية بمنطقة «الشرق الأوسط الأوسع»: محاولة الخروج من التورط بالعراق وأفغانستان، ومحاورة إيران بشأن الملفات العالقة بين الدولتين وأهمها البرنامج النووى الإيرانى، ودعم إيران للحركات الثورية وفرض حل الدولتين فى النزاع العربى الإسرائيلى على فلسطين. وفى حين أدخلت هذه التوجهات شيئا من الاطمئنان فى المجال العربى، اضطربت لذلك كل من إسرائيل وإيران. أما إسرائيل بحكومتها اليمينية الجديدة، فقد ثارت لديها أشواق القوة ومطامحها، وراحت تبحث عن حرب على إيران أو على حزب الله. وأما إيران وبعد تصريحات متناقضة بشأن قبول التفاوض أو عدمه، فإنها اتجهت لتشكيل محور بالعالم العربى، رأس حربته حزب الله بالطبع، بقصد الضغط على مشارف التفاوض وبقصد تحويل مجالات النفوذ إلى مناطق ثابتة إن أمكن. كان هدف الولاياتالمتحدة فرض «التلاؤم» مع التوجهات الجديدة، أما هدف إسرائيل وإيران فكان ولايزال تجاوز تحديد الأحجام، ومع اقتراب مواعيد الانتخابات النيابية فى لبنان. والرئاسية فى إيران، برزت مسألة «الشرعية» الشعبية والمؤسساتية، وهى أمور ما كانت مهمة فى مرحلة الفوضى البناءة والخروج على القواعد، أما فى إيران فكان ضرورويا أن يفوز محمود أحمدى نجاد بالأكثرية الشعبية من جديد إثباتا لصحة السياسات السابقة. وأما فى لبنان، وبعد استخدام حزب الله لسلاحه بالداخل وازدياد الانقسام من حوله وعليه، فقد كان ضروريا تجديد «شرعيته» أو شرعية سلاحه عن طريق الحصول على الأكثرية فى الانتخابات، إظهارا أيضا لصحة وسلامة كل ما قام به منذ حرب تموز «يوليو» عام 2006. وما كانت الأجواء الشيعية بداخل البلاد مقلقة له للالتفاف الكبير من حوله، بل انصب القلق على حالة الاستنفار فى الأوساط المسيحية ضد الجنرال عون. ومن هنا جاء التركيز الكبير فى الخطابات الانتخابية للأمين العام لحزب الله فى الشهور الأخيرة على نصرة الجنرال عون، وتقديم الدعم بشتى الأشكال له، لكن الأمين العام للحزب وهو يقوم بذلك اصطدم مرة ثانية وثالثة بالسنة حين سمى يوم الدخول إلى بيروت بالسلاح يوما مجيدا. كما اصطدم بفئات مسيحية واسعة حين اعتبر الجنرال عون زعيما مسيحيا أوحد، واصطدم أخيرا بحليفه فى الوسط الشيعى الرئيس نبيه برى، حين وقف مع الجنرال عون فى مناطق التماس الشيعى المسيحى، وصوت أنصاره لصالحه، على حساب أنصار برى من المسيحيين. وثالث تلك الظروف والظواهر طبيعة الخطابات التى تبناها وروج لها كل من عون وحزب الله على مشارف الانتخابات. أما زعيم التيار الوطنى الحر فقد واجه خصومة من المسلمين والمسيحيين بقسوة ظاهرة وبخاصة البطرك المارونى وسعد الحريرى وفؤاد السنيورة. أما مرشحو حزب الله فقد دأبوا على تعيير خصومهم بأنهم من أتباع أمريكا وإسرائيل، وبخاصة بعدما زار مسئولون أمريكيون لبنان. وصرحوا بالحرص على سلام لبنان وديمقراطيته. وزاد الطين بلة تصريح الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد بأن انتصار المقاومة فى الانتخابات سوف يغير وجه لبنان والمنطقة. وجاراه الأمين العام للحزب حين قال ردا على التشكيك فى قدرة الحزب إذا انتصر هو وحلفاؤه على إدارة شئون الدولة أن الذين انتصروا على إسرائيل فى حرب تموز قادرون على حكم بلاد أكبر مائة مرة من لبنان. وسط هذه الظروف الصعبة بل القاسية، وفى ظل الإحباط السنى بعد 7 آيار «2008» وتشكل الحكومة المسلولة «نتيجة الثلث المعطل بداخلها»، وهشاشة وحدة قوى 14 آذار وبخاصة بعد مواقف الزعيم الدرزى وليد جنبلاط الداعية للتوافق مع حزب الله بأى شكل «لتخوفه من النزاع الداخلى» برزت «ظاهرة» سعد الحريرى التى شكلت الفرق الحاسم فى الانتصار الذى تحقق وتجلى ذلك فى أربعة أمور: التحديد الواضح للأهداف من وراء النجاح فى الانتخابات وبالإيجاب والسلب وحدة الدولة والجمهورية والنظام والمؤسسات «تطبيق الطائف، والالتفاف من حول رئيس الجمهورية والجيش». والحرص على العيش المشترك «السلم الأهلى، والمناصفة فى السلطة والمؤسسات بين المسيحيين والمسلمين»، وعدم عودة عهد الوصاية السورية «ما بيرجعوا والسما زرقا»، ورفض استقواء الحزب بسلاحه على الداخل اللبنانى، كما حصل فى عدة مناسبات وبخاصة فى 7 آيار «ما ننسى والسما زرقا» وقد تكررت تلك المعانى فى خطاباته المتكاثرة بالفصحى والدارجة بحيث صارت على كل شفة ولسان. واضطر خصومه لمجاراته فيها يشتريانها شعبيا «مثل الشعارات التى تدور حول زرقة السماء» وقد أضاف إليها فى أسبوعى الحملة الانتخابية الأخيرين لاستحثاث الناخبين على التصويت للوائح كاملة وبدون خلط أو اختراق الشعار الذى نحته والده الرئيس رفيق الحريرى فى انتخابات عام 2000 وهو: «زى ما هيى، أى صوتوا للائحة كاملة». استنهاض الجمهور السنى للمشاركة فى الانتخابات، باعتبار ذلك أسلوبا حضاريا، والأكثر جدوى فى الحفاظ على النظام، والسلم الأهلى، وللرد على استخدام القوة والسلاح ضد مدنهم وقراهم. وقد بدأ يدعو نخبا وشرائح من ذاك الجمهور إلى دارته فى بيروت قبل أشهر، فيتحدث إليهم عن العمل من أجل بلوغ الأمل الموعود، فلما اقتربت الانتخابات، خرج إلى سائر مناطق ذاك الجمهور فى البقاع وطرابلس وعكار، حيث ظهرت عفويته وجاذبيته فى مخاطبة الحشود الكبيرة. وظلت لهجته عالية ضد الوصاية، وضد الخروج على الشرعية. لكنه حتى فى ذروة الحماس والتحميس والاستحثاث، ما تردى فى التخوين أو الاثارة الغرائزية. فعندما نشرت المجلة الألمانية (شبيجل) المقال الشهير عمن قتل والده الرئيس رفيق الحريرى، سارع للقول مرارا أنه ينتظر حكم المحكمة فى الأمر، ولا يأبه للمقالات الصحفية، وإنه لا مصلحة فى مجاراة التسريبات الصحفية، لأن فى ذلك مدعاة للفتنة. وقد تجلت آثار ذاك الاستنهاض بوضوح فى خروج الحشود الكبيرة للانتخاب، حتى فى دوائر الكثرة السنية التى ما كانت فيها منافسة قوية. بيد أن الجانب الآخر من الصورة كان ظهور الشخصية الزعامية (الكارزماتية) لسعد الحريرى، واقتناع الجمهور به، وانشداده إليه، وبالكفاءة والحب، وليس بالوراثة السياسية لوالده فحسب: كما هو المتعارف عليه فى لبنان، لدى العائلات السياسية. الحرص المنقطع النظير على استمرار تحالف 14 آذار وتماسكه رغم الانقسامات التى حصلت فى التنافس على مقاعد الترشيح فى سائر المناطق. وفى حين ما استطاع الأمين العام لحزب الله، رغم الجهد الكبير المبذول، التوفيق بين حليفيه الرئيس برى والجنرال عون، تمكن سعد الحريرى، وفى مناطق الكثرة السنية، والامتزاج «المسيحى/ السنى» و«السنى/ والدرزى»، وفى الدوائر المسيحية الخالصة، أن يحفظ وحدة القيادات والموقف والترشيحات. وقد ظهر ذلك فى طرابلس حين أعرض عن ترشيح بعض رجالات تيار المستقبل البارزين. لصالح حلفاء قدامى أو جدد، وبعد أن نجح فى التوفيق بين جنبلاط والأحزاب المسيحية الداخلة فى 14 آذار، أظهر براعة لافتة فى الحفاظ على التحالف مع جنبلاط نفسه، وسط محاولات حثيثة من جنبلاط للابتعاد أو الوقوف على مسافة، وقد خاطب الحريرى جمهوره مرة قائلا: نحن ووليد بك معا إلى الأبد! الحرص البارع على تأمين ظروف النجاح وشروطه فى الدوائر القريبة والبعيدة، وعن طريق الزيارات الخاطفة، أو أحاديث الاقناع الطويلة فى دارته. ومن ذلك ما حصل فى صيدا، مسقط رأس آل الحريرى، حين أقنع الرئيس السنيورة (وهو من صيدا أيضا) بالترشح للمقعد الثانى بالدائرة مع عمته الوزيرة الحالية للتربية السيدة بهية الحريرى. وقد تردد الرئيس السنيورة فى البداية، ثم انضم لبهية الحريرى فى الترشيح، واندمج فى المعركة. وحقق نتائج باهرة، قريبة من نتائج السيدة بهية. وما حصل فى صيدا حصل بعض منه فى البقاع وطرابلس وعكار، حيث ظهر على خارطة المرشحين شبان جدد، عرف سعد الحريرى الجمهور بهم، وعرفهم على الجمهور. الموازنة الدقيقة بين الداخل والخارج. ففى السنوات الأربع الماضية تابع سعد الحريرى علاقات والده الممتدة الداخلية والخارجية مع كبار الشخصيات السياسية والدينية والدبلوماسية فى لبنان والوطن العربى والعالم. وظهرت ثمار حركته الدؤوبة، والمنطلقة من قاعديته فى المملكة العربية السعودية ولبنان. فى الأسابيع الأخيرة السابقة على يوم الانتخاب، حيث صارت دارته مقصدا لمئات المسئولين والشخصيات من لبنان والوطن العربى والعالم. وفى حين أظهرت استنفارات الجنرال عون والأمين العام لحزب الله، أن الأخطار سوف تحدق بلبنان إن فازت المعارضة، صارته دارته فى قريطم ببيروت بمثابة «واحة الآمال» للناس وللنظام ولعلاقة لبنان بالعرب والعالم، يقصدها اللبنانيون المتوجسون والعرب والأجانب للاطمئنان إلى سلامة الحاضر، وازدهار المستقبل.. ..وجاء الانتصار بحجم الجهد المبذول، وبحجم التطلعات المشروعة لغالبية اللبنانيين. لكن يحسن قبل مقاربة الخاتمة الإدلاء ببعض الملاحظات العامة والخاصة لإثارة الأجزاء الأخرى من الصورة: احتفظ حزب الله بعدد كتلته النيابية كما فى المجلس الماضى، أما حليفه الرئيس نبيه برى فقد خسر بعض نوابه لصالح الجنرال عون، أو لصالح تيار المستقبل وقوى 14 آذار. وأما حلفاء الحزب الصغار مثل القومى السورى والبعث، فقد حصلوا على بعض المقاعد فى مناطق الكثرة الشيعية. خرج الجنرال عون من الانتخابات واقفا، لكنه مثخن بالجراح. فقد خسر صهره فى البترون، وهى دائرة مسيحية شبه خالصة. كما خسر مرشحه وزميله الجنرال أبوجمرة فى الدائرة الأولى ببيروت، وهى دائرة مسيحية شبه خالصة أيضا. وفاز سائر خصومه فى تلك الدائرة ومنهم حفيدة الصحفى المعروف غسان توينى وابنه الشهيد جبران توينى، كما فاز ابن بشير الجميل، أما مرشحوه فى دائرة جبيل ومنطقة بعبدا، فقد فازوا بفضل دعم الناخبين الشيعة. وما فاز هو ومرشحوه بشكل كامل فى منطقة مسيحية إلا فى كسروان. تحالف حزب الكاشناق الأرمنى مع الجنرال عون فى سائر الدوائر، فنجح نائبان عنه بالتزكية. وخسر أربعة مرشحين لصالح مرشحى 14 آذار. فقد تحالف قوى 8 آذار فى دائرة زحلة (البقاع الأوسط) كل مرشحيه السبعة، وبينهم القطب الكاثوليكى البارز إلياس السكاف، والنائب الشيعى، والمرشحون الآخرون من الطوائف المسيحية. أصيب القطب الأرثوذكسى البارز وخصم الجنرال عون، النائب ميشال المر فى دائرة المتن بأضرار كبيرة لصالح مرشحى الجنرال عون. إذ لم ينجح بالدائرة غيره مع حليفه سامى الجميل ابن الرئيس أمين الجميل، بسبب تصويت الناخبين الأرمن لصالح عون. خسر تيار المستقبل مرشحه البارز النائب والوزير باسم السبع بدائرة بعبدا، لانصباب الأصوات الشيعية الموالية لحزب الله لصالح خصومه وخصوم لائحته من المستقلين. وهكذا، فإن أبرز ظواهر الانتخابات اللبنانية التى جرت يوم الأحد فى السابع من هذا الشهر أمران: احتفاظ قوى 14 آذار بالأكثرية فى المجلس النيابى الجديد، وتبلور زعامة النائب سعد الحريرى على المستويين الإسلامى والوطنى. لقد كسبت قوى 14 آذار انتخابات عام 2005 بدم الرئيس رفيق الحريرى واستشهاده. أما انتخابات 7 حزيران عام 2009، فقد كسبتها قوى 14 آذار مرة ثانية، بفضل قيادة سعد رفيق الحريرى.