خلال السنوات الخمس الأخيرة، كرّست مجلة "الفن حتما" صفحات عديدة للتعريف بأبرز الوجوه الفنية العربية المعاصرة، وتنظم حاليا معرضا جماعيا مهما في باريس يمنح الجمهور الفرنسي فرصة الإطلاع على أعمال أساسية لثلاثة عشر فنانا عربيا ينشطون حاليا بين فرنسا وشرقنا، ويشكل فن كل واحد منهم وصلة بين ضفتي المتوسّط. المسألة الأولى التي تقفز إلى أعيننا داخل المعرض هي اعتماد معظم الفنانين المختارين أحدث الوسائط والتقنيات الفنية لتمرير خطابهم الفني، إلى جانب عملية المراوحة الواضحة في بعض أعمالهم بين مراجع شرقية وأخرى غربية.
الذاكرة والأحداث
أعمال اللبناني أيمن بعلبكي مثلا تحمل ندوب طفولته في لبنان خلال الحرب الأهلية. وضمن سعي ثابت للشهادة على عنف هذه الحرب وتجاوز تأثيراتها، تتراوح هذه الأعمال بين تجهيزات مكونة من أشياء مختلفة (لافتات قديمة، ملصقات ممزقة، كراسي) أعيد تحديد وظيفتها، ولوحات تعبيرية تتجلى فيها أنقاض مدينة أو وجوهٌ مجهولة ومستورة بحجاب أو كوفية ترمز إلى إخفاء هوية الضحية والجلاد معا.
وبخلاف بعلبكي، لا يستوحي الفلسطيني تيسير بطنيجي أعماله فقط من الظرف الجيوسياسي المأساوي لبلده، كما لا يشكل هذا الظرف تبريرها الوحيد، بل نجده منجذبا أكثر نحو ما يحصل على هامش الحوادث الراهنة، أي تلك "اللحظات الهشة أو البطيئة" من واقعه اليومي. ونظرا إلى اهتمامه الثابت بموضوع الجسد، يسعى إلى تجسيد أفكاره بشكل مادي، وليس فقط من خلال وهم اللوحة، من هنا جاءت استعانته بالتصوير الفوتوغرافي والفيديو والتجهيز.
أما تجهيزات اللبناني إيلي بورجيلي ولوحاته ومنحوتاته فتتشكل من مواد مختلفة يجمعها ويرتبها كما نرتب لحظاتٍ مبعثرة. وتتجاور داخل العمل الواحد أحيانا وجوه وقامات مرسومة مع قطعة حديد، صندوق خشبي، حبل، قش أو قطعة قماش، مواد تشكّل مفردات تعبيرية سردية تُسائل بشكل ثابت الذاكرة من خلال الآثار المتبقية من حياتنا.
وبدورها، لا تهمل السورية نينار إسبر موضوع الذاكرة، بل تستحضر أيضا في عملها الذي يتراوح بين نحت وتجهيز وفيديو موضوع الهوية ضمن توجّه سياسي وانتهاكي، يخرج الهوية من حدودها الإثنية السياسية والقومية ويطرح نظرة نسوية جديدة عليها.
وسائط مختلفة
والأمر نفسه بالنسبة إلى الجزائرية زليخة بو عبد الله التي تلجأ إلى جميع الوسائط الفنية لإنجاز أعمال تصوّرية ، شهوانية وسياسية، تختلط فيها مراجع شرقية وغربية ضمن مسعى يسائل موقع الصورة ويشكّك بالتمثيلات الطاغية التي تبدو نهائية ومطلقة، في حين أنها "كليشيهات" مبتورة.
وفي مجال التصوير الفوتوغرافي، نشاهد في المعرض صورا للمصرية نرمين همّام تقترب في طريقة معالجتها ومفاعيلها البصرية من اللوحة المرسومة، فتروي واقعا معقّدا يتألف من طبقات متراكبة ويستدعي بالتالي عدة مستويات قراءة.
وداخل كل صورة، يتزاوج حس الزخرفة مع النقد الاجتماعي لبلوغ لغة تزيينية شرقية، تعمد الفنانة أيضا إلى قلب قواعدها، وفي عملها الثابت على عامل الزمن، تمزج بمهارة كبيرة صورا رقمية بأفلام أو عدسات معطوبة.
ولأن القناع يجعل من يرتديه مرغوبا فيه ويضع في الوقت ذاته مسافة مع الآخر يتعذر عبورها، تتقدّم النساء الماثلات في صور السورية ليلى مريود مقنعة فتحافظ في ذلك على أسرارها، بينما تصوغ الصور نفسها، بتعدّد مصاريعها، التباسا في الرغبة يمدّها بقوة إيحائية كبيرة.
أساليب متنوعة
وفي مجال فن الرسم، نشاهد أعمالا للمغربي هشام بن أحود تستحضر المأساوي والعبثي وتتحلى بشحنة ثورية خصوصا حين يتعلق الأمر بوضع الفرد في مجتمعاتنا العربية التي تشكّل هاجسا رئيسا لديه. ووفقا للمشروع الذي يعمل عليه، يلجأ الفنان إلى حالات من الواقع اليومي أو إلى شخصه كموضوع للوحاته.
من جهته، يبتكر مواطنه ماحي بينبين فضاءات تقع بين عالمين، هي كناية عن مشاهد سردية معقّدة تتجلى فيها أجساد وقامات بشرية تبدو خاضعة لجملة توترات، بينما تؤسّس الفرنسية (من أصل مغربي) ناجية محاجي لفن تخطيطي جديد يرسم الخط فيه طيات عديدة ضمن حركة داخلية وخارجية، شهوانية وسامية.
وتسحرنا لوحات السوري خالد تكريتي بمناخها الفريد وأسلوبها الذي يقترب من أسلوب البوب، كما تفتننا بشخصياتٍها الغزيرة المستقاة من حياته، الأمر الذي يحولها إلى نوع من السيرة الذاتية أو إلى لقطات معزولة أو متسلسلة من ماض بعيد أو حاضر متخيَّل.
أما المغربي عبد الرحيم يامو فيلجأ إلى الجماليات الشرقية والغربية معا لتحقيق لوحاتٍ تتناغم النماذج الزهرية والنباتية في فضاءاتها، وتتزاوج مع الخط المتموّج كما تسمح تقنية المسح المستخدمة فيها ببلوغ مفاعيل شفافية فريدة. بالمقابل، تتألف منحوتاته من مواد أولية وأدواتٍ بدائية وأخرى مستقاة من الحياة اليومية، يتلاعب الفنان بأشكالها ويركّبها بطُرق تنبثق منها وجوه وكائنات هجينة.