غريب هو أمر السينما المغربية، فهى لا تزال حائرة بين الغوص فى قضايا شديدة المحلية، ولفت أنظار العالم الغربى، وهو الفخ الذى يقع فيه دائما صنّاعها من المخرجين الجدد والذين تنشطر أفكارهم وأحلامهم بين ثقافات عدة وبالتالى تأتى خطواتهم لتكشف عن موهبة مهتزة ومتوترة رغم أنها تسكن منطقة من الإبداع أهم ما يميز أسلوبها الجرأه والتجريب وطرح قصص مثيرة للجدل. ويجيئه فيلم «نبع النساء» الذى عرضته شاشة مهرجان أبوظبى السينمائى ليثير جدلا حقيقيا بين مشاهديه، ففى صالة العرص قال أحد الذين يجلسون بجوارى عقب نهاية الفيلم «إيه الملل ده أنا زهقت.. اتخنقت» وهنا لم تمسك إحدى الأسر المغربية من تلك الجالية التى استحوذت على القاعة نفسها وقال أحد أفرادها إن من ينتقد العمل لا يعرف ما يدور فى المغرب إنه الواقع الحقيقى، النساء فى أزمة صريحة، والرجال غير قادرين على مواجهة أى شىء، وبدا الفيلم الذى تبنّى دعوة نسائية لمقاطعة ممارسة الحب حتى يستفيق الرجال من غفوتهم ويكونوا إيجابيين فى مشاركتهن همّ الحياة، وكأنه يقدم أحد الحلول الفانتازية لأزمة الفقر فى قرية كتلك القرية النائية فى جبال أطلس المغربية. فنحن نرى مجموعة من النسوة تختلف أعمارهن يذهبن كل صباح إلى النبع لإحضار المياه عبر طريق جبل شائك وصعب، والرجال دائما ينظرون إليهن من على المقهى دون أن تحرك أو مساعدة.. كل همهن ممارسة الجنس ليلا، ولكننا نجد الفتاة ليلى تدعو لتنظيم إضراب عن ممارسة الحب، وأنه لن تكون هناك أى عاطفة تجاه الرجل ما لم يساعدوهم فى حل لإحضار المياه للقرية.
وفى كل لحظة نرى المخرج رادو مهيليانو يلجأ لأغنية ممتعة من التراث المغربى تفصل المشهد والقصة التى ربما تلقى بظلالها على قضايا المرأة فى مجتمع عربى لأكثر من دولة. حتى عندما وصلت الأحداث إلى ذروتها حاول المخرج أيضا الاستعانة بآيات القرآن من سورة النساء ليؤكد شيخ القرية تارة أن ما تفعله النسوة تصرف غير أخلاقى، بينما فى مرات أخرى تقرأ ليلى عليه آية تؤكد فيها أنه يجب على الرجال أن يكونوا قوامين على النساء.. وهنا تضع يدها على الجرح، ففى المغرب هناك أكثر من 80٪ من النساء هن من يعولن الأسرة.
والفيلم الذى شارك فى دورة مهرجان كان الأخير إنتاجا فرنسيا مغربيا بلجيكيا إيطاليا، وظهر به بعض التطويل لدرجة الملل، إلا أنه كشف عن مواهب تمثيلية كبيرة داخل المغرب، وخاصة فى تلك المشاهد التى جسدتها النساء وهن يذهبن إلى العين التى تنفجر منها المياه والتى تشكل بالنسبة للقرية شريان الحياة، وخاصة الممثلات: ليلى بختى وحفيظة هيرزى، وبيونى وهيام عباسى، ولا ننسى أن المخرج لجأ لكثير من الأغانى الفلكلورية كنوع من مغازلة المشاهد العربى، وهى آفة لم يستطع مخرجو المغرب العربى التخلص منها، ولكنه أيضا نجح فى جزء من محاولته لقضية المساواة بين الرجل والمرأة فى العالم العربى، وربما أشار إلى أن الحل يكمن أولا فى الضغط على الرجال فى محاولة للخروج من دائرة العجز المنهجى والاستيعابى لطبيعة عصر يتطلب المشاركة وذلك مجرد دعوة لإضراب نسائى جماعى عن معاشرة الرجال.
وإذا كان «نبع النساء» فيلم يكشف مأساة المرأة فإن الفيلم المغربى الآخر «موت للبيع» يرصد مأساة شباب الرجال، حيث يعرض بطريقة مأساوية وملهاة حكايات ثلاثة شباب يعانون الفقر والبطالة وأشياء أخرى، وتتلعثم خطاهم وتتشتت أفكارهم وأهدافهم بين الحلم واليأس والأمل فى الحياة أو الخلاص منها، بين الخير والشر.
وإذا كانت الوساوس الشريرة قد انتصرت فى النهاية فهى رؤية فنية مقصورة حتى يتأزم الموقف المغربى ويتأزم معه المشاهد ليدرس حقيقة جيل يعانى.
والفيلم صور فى مدينة تطوان وبالتحديد منطقة المينا والتى تبدو بائسة، وتتصارع فيها السلطة مع المجتمع.. الكل يطارد بعضه حيث نرى ثلاثة شباب أصدقاء لهم عدة محاولات فى السرقة من أجل المال، منهم مالك الذى يريد أن يرتبط بفتاة ليل وينقذها، وعلى صاحب الطموح فى تجارة المخدرات وسفيان الحائر بين التوبة والاستمرار فى السرقة، وعندما تفشل آخر عملية سرقة تتحول مصائر الشبان، ويقتل منهم اثنين على يد ضابط الأمن.
وفى الفيلم نرى حضورا أقوى للتيار الدينى حيث حاول البعض مع سفيان وجعله يتوب ويعمل بائعا أمام المساجد لكنه يعود لشقاوته، وعبر شوارع المدينة البائسة تكشف كاميرا المخرج الحالة الضبابية لمجتمع شبابها يعيش على السرقة ورغبته، وهى رغبة مستحيلة ورغباته المستحيلة التى ربما تقضى على أصحابها، وبالتالى هناك رغبة فى التخلص من الحياة عبر حوار جاد ومركب أحيانا، وشاعرى أحيانا أخرى.. وكم كان المخرج جريئا فى مشهده الأخير عندما قلب الصورة لشاب يقف على كوبرى، وكأنه يستعجل الرحيل، الصورة السينمائية كانت رائعة وإن كانت مبرراتها مبالغة بعض الشىء وكذلك مشهد الرقص فى النار للشاب سفيان الذى بدى وكأنه اختار النار بديلا لجنة حياة بائسة، بينما كان مالك الذى يقع فى غرام دنيا أكثر واقعية لتجسيد روح المجتمع المغربى، وطالما نادى عليها «يا دنيا يا غرامى» دون رد، الفيلم لعب بطولته فهد بن شمس، فؤاد لابيض، محسن ماليزى، ايمان ميشراف، وهو الفيلم الثالث لمخرجه بعد «ألف شهر» و«ياله من عالم جميل» التى يتبنى فيها لشرائح إنسانية، رمزية فى عالم لم يعد فيه مكان للجمال، عالم يتنفس تحت شعار «الموت للبيع».. عالم أصبح المخاوف التى تحاصره هو الفقر والسطو والجبن وهى مفردات انقلاب إنسان العصر على نفسه وربما المجتمع ضد المجتمع.
منح مهرجان أبوظبى جائزة اللؤلؤة السوداء للنجم الصاعد وهى جائزة تقدير جديدة للموهوبين الشباب الذين ظهروا على الساحة السينمائية الدولية لثلاث ممثلات تمييزن فى فيلم «يوميات فراشة» وهمن ليلى كول، وسارة بولعز، وسارة جادون وقدم الجائزة الفنان خالد أبوالنجا.