يأبى صناع السينما المستقلة أن تمر أفكارهم وأحلامهم المشروعة وغير المشروعة مرور الكرام، فهم بأعمالهم الجديدة يثيرون بحق جدلا كبيرا حول مصير غامض ومجهول لمستقبل السينما المصرية، بعدما أعلن المؤلفون والمخرجون الجدد تمردهم على الواقع والتاريخ.. ثاروا وصالوا وجالوا، غامروا بوعى وبدون وعى، وخرجت التجارب رغم حالة الدهشة التى أحدثتها ينقصها الكثير من حكمة الإبداع وقوام سينما حقيقية يمكنها أن تتفاعل مع الجمهور حتى يمكنها أن تعيش وتخلد، فالجمهور هو الذى يجعل صالات العرض تتنفس، وهو الذى يحدد عمر النجوم والأفلام.. فهل ولدت هذه التجارب التى تصرخ بصوت عال بشعار الاختلاف لتقاوم عصر وزمن وسياسات خاطئة ومجتمع سلبى وقيود وتحكمات يفرضها منطق السوق ورأس المال والتوزيع أم أنها مجرد مشاريع لأحلام مفتعلة وأفكار مشوشة، أم هى تجارب لمغازلة الغرب وتغذية الصورة المؤلمة والمتخلفة التى يرسمها لمصر فى ذهنه بحثا عن مصادر تمويل. تساولات كثيرة لابد من طرحها عقب استقبال شاشة مهرجان دبى ثلاث تجارب مختلفة حار فى تصنيفها الجميع مستقلة أم غير مستقلة، وإذا كانت مستقلة فهى مستقلة عن ماذا؟ وهو الجدل الذى أثارته مناقشات المهرجان على مائدة «عين على السينما المصرية» التى حضرها الناقد المخضرم على أبوشادى والمخرجون محمد دياب ووائل عمر وأحمد عاطف. واقع الأمر من حال الأفلام أنها تعتمد فى طرحها للموضوعات على مفردات واقع اليوم من قضايا ومشكلات، لكن بشكل ليس كافيا من حيث النضج السينمائى. الإنتاج الجديد يحمل نفحة حداثة وجرأة فى استعراض موضوعات محلية شائكة، لكنها مباشرة وليس بها جهد فنى.. وهنا أعود لفكرة «سينما التوك شو» التى ترصد بالكلمة أكثر من الصورة، لغة الخطاب تطغى على لغة المشاعر والأحاسيس، تحميل الأمور أكثر من طاقتها.. أحيانا تشعر بأن هذه الأعمال خانقة، وأحيانا أخرى تملؤك باليأس أو اللامبالاة لكن الشىء المؤكد الآخر والذى أجمعت عليه أفكار هذه التجارب المصرية التى تعرض بالمهرجان هى الدعوة للهروب من الوطن، لأن الحياة بداخله أصبحت مستحيلة، وشعار صناع الأفلام فى هذا أن الواقع أصبح مستحيلا، وأننا نتعامل بواقعية مع حياتنا.. فهل عجزت السينما الجديدة عن ضخ شحنات إيجابية للمشاهد فى التعامل مع واقعه، فى إعادة النظر بحياته، فى ثورته على سلبيته، فى التفتيش عن مفردات تؤهله للتواصل بدلا من الاستسلام والهروب والنقمة على الوطن بأكمله. شىء طبيعى أن تحمل هذه الأفلام أفكار مخرجيها المهووسين بالغرب أو الذين عاشوا فيه ومنهم بالقطع المخرج هشام عيسوى الذى هاجر إلى أمريكا منذ عام 1990، حيث قدم فيلمه «الخروج» أو الخروج من القاهرة ليكشف عن واقع أليم لأبطاله وصدمة عن الحياة فى القاهرة المعاصرة، وزمن خلال بطلين أساسيين يحبان بعضهما، تعاكسهما الظروف بسبب المشاكل الاقتصادية والفوارق الطبقية والاجتماعية، فأمل اسكندر أو «مريهان» فتاة قبطية فى الثامنة عشرة من عمرها تعيش فى إحدى ضواحى القاهرة المعدمة، وهى ترفض أن يهاجر حبيبها المسلم طارق أو محمد رمضان مصر على متن قارب غير شرعى إلى إيطاليا، تخاف عليه من الغرق والرحيل لدرجة أنها تخبره كذبا أنها حامل، ويطلب منها أن تجهض الطفل أو تأتى معه، لكنها ترفض، وتطرد أمل من عملها وكذلك يتمرد محمد على العمل مع أخيه، وتتورط فى قضية قتل زوج أمها، بينما هو يسافر على المركب.. تحاول اللحاق به عبر السباحة وفى اللحظة التى تقترب فيها من الغرق يراها ويقفز من المركب لينقذها ونراهما معا على رمال الشاطئ.. ذلك كان مشهد النهاية لكن بين أرجاء العمل الذى لم يتعرض بعمق لقضية العلاقة بين مسلم ومسيحية، نجد حالات أخرى تتمنى الهرب من مصيرها أو العيش بأى زمن، فهناك الفتاة «سناء موزيان» التى نراها تبحث عن مال لتعديل مسار خطيئتها مع شاب تركها وغادر البلد، وتستسلم لزوج ثرى يكبرها سنا، ونرى أخت أمل التى هجرها زوجها أيضا تعمل فى عالم الرذيلة لتضمن الأمان لابنها.. بؤس فى الصورة وانحلال فى لغة الحوار «الواقعى».. حالات تشعر أنها كوكتيل من تاريخ وتراث سينمائى شاهده المؤلف والمخرج وتأثر به فى ذاكرته عندما قرر أن يقدم فيلما عن مآسى سكان القاهرة المعاصرة. ومن باب مغازلة الغرب كانت هناك بعض الجمل التى أثارت دهشتى حيث هى فى لغة الحوار المصرى كلام ويتم ترجمتها إلى كلام آخر، ربما خشى المخرج من حذف الرقابة أو غضب الجمهور، لكنه طبعا يقدمها صريحة للغرب خاصة فى بعض الجمل التى تخص المسلم أو الفتاة المسيحية. محمد رمضان شاب ينبض بالموهبة وتشعر أن ملامحه تحمل الكثير لكنه بحاجة لتجارب أكثر اتساعا فى دائرة محتواها وصورتها وشخوصها حتى لا يقع فريسة أنماط محددة كما ظهر فى «الخروج» ومن قبله «الشوق». بينما جاء فيلم «678» ليكون أكثر اتساقا مع نفسه فهو واضح وصريح فى لغته وصورته مثل اعتراف مخرجه محمد دياب وتقبله لكل الآراء حول الفيلم. والفيلم الذى ينتمى لسينما التوك شو يعرض أيضا لقضية شائكة يعيشها سكان القاهرة، وهى التحرش الجنسى، ولكن كانت هناك مبالغة كبيرة وحوار يشبه أحاديث البرامج وتحقيقات الصحف، وهو الأمر الذى أعتقد أنه حجم الرؤية قليلا عن أداء أبطاله المتميز فى بعض المشاهد، ومنها مشهد نيللى كريم فى قسم الشرطة ومشهد بشرى وهى ترتجف قبل أن تنقض على الفريسة المغتصب بالأتوبيس. والفيلم يستعرض لمحات من حياة ثلاث نساء من مختلف الطبقات وينتمين لثقافات مختلفة، فهناك فايزة «بشرى» أم لطفلين وتعمل موظفة فى الشهر العقارى، تعانى من ضغط المصروفات الدراسية وإيجار الشقة هى وزوجها «باسم سمرة» الذى يعمل فى مكانين، وتشعر أنه لا يوجد عدل، وهناك صبا «نيللى كريم» التى تعمل فى اتيليه لتصنيع المجوهرات وتعيش فى سلام مع زوجها الصبى «أحمد الفيشاوى» وهناك نيللى التى تعمل فى إحدى شركات التسويق وكوميديانة فى أحد البرامج. صبا تتعرض لحادث اعتداء وتحرش جنسى صارخ فى استاد القاهرة أثناء مشاهدتها لمباراة لمنتخب مصر مع زوجها الذى يعشق الكرة بجنون، وهنا تنكسر لغة الحب بينها وبين زوجها الذى تشعر أنه هرب منها ولم يشاطرها أزمتها وتنكسر لغة الانتماء عندما تقوم بمحو علم مصر الذى رسمته على وجهها، لكنها تتغلب على الأزمة، بل وتقوم بتدريس كورس للسيدات عن طرق مقاومة التحرش الجنسى الذى شعرنا به مع الفيلم أنه قضية أزلية.. وتتأثر فايزة بحديث صبا، وعندما يجبرها زوجها على ركوب الأتوبيس بدلا من التاكسى توفيرا للنفقات تتعرض فايزة لمحاولة تحرش وتدافع عن نفسها بقوة بإصابة المتحرش فى مكان حساس بدبوس شعر، وتتكرر المسألة وهو ما يجعلها تهجر العلاقة مع زوجها.. بينما نيللى تكشف عن القصة الحقيقية الشهيرة إياها عندما تعرضت إحدى المخرجات للتحرش وتصر على رفع دعوى قضائية رغم رفض الأسرة، ويجمع القدر النساء الثلاث اللاتى أصبحن يبحثن عن حالات لإصابتهم فى المواقع الحساسة حتى يخاف جميع المتحرشين، حتى إنهن يذهبن إلى الاستاد فى مباراة مصر وزامبيا ليهتفن لزامبيا.. وبينهن يظهر ضابط المباحث ماجد الكدوانى الذى أضفى على الفيلم نكهة كوميدية خاصة خففت من أزمة القضية التى شاهد أحداثها وليس الفيلم لتبقى النهاية مفتوحة.. فالنساء يردن تحقيق العدالة بأيديهن والانتقام من الرجال وضابط الشرطة يتركهن ربما إحساسا بالذنب تجاه التقصير مع زوجته لحظة ولادتها بنتا لا يعرف ماذا سيكون مصيرها. «678» عمل سينمائى تحرش بالسينما اقترب من بعض مناطقها الجميلة لكنه فقد إحساس الصورة وبراءتها ونضارتها أمام الحوار الواضح والصريح.. كنا نتمنى وكانت هناك فرصة لأن نرى مساحات أكثر لإبداع بطلاته خاصة أن الحبكة قائمة والواقع ملموس.. كنا نريد أن نشعر بمفردات محمد دياب الناعمة والصادقة وراء الكاميرا فى تجربته هذه مثلما لمسناها على ورقة فى «أحلام حقيقية» و«الجزيرة». هو «ميكروفون» الحائز على ذهبية قرطاج، وأفضل فيلم عربى فى القاهرة، وهو ما يشير إلى روح المهرجانات السمحة وتقبلها لمثل هذه النوعية التى تراها تيارا جديدا على الشاشة المصرية. وفى ميكروفون نرى صورة واسعة وضيقة فى آن واحد لواقع ومستقبل مجموعة من شباب الفرق الموسيقية بالاسكندرية التى تتحرر من كلاسيكيات الغناء التقليدى، وعندما يحاول المؤلف والمخرج أحمد عبدالله أن يوحى للمشاهد بأن ما يعوق تحقيق أحلام هؤلاء الشباب هو اصطدامهم بالواقع الأمنى والتطرف الدينى والتسلط الاجتماعى، فهو إيهام لا أتفق معه، وكنت أتمنى ألا نضيق الخناق أمام المشكلة لنحصرها فى نطاق زمنى ودينى وهو لف ودوران لتقديم صورة لحال مصر المعاصرة كما يراها المخرج وأعتقد أن الصدام الحقيقى لهذه الأحلام هو الجمهور نفسه والمجتمع الذى قد يتقبل أو لا يتقبل هذه الموجات الغنائية الجديدة.. كنت أرى أن هذا هو المحك الرئيسى فى إثبات وجود هؤلاء ربما أن يكونوا أو لا يكونوا. وإذا كانت النظرة السياسية حاضرة فى ذهن أحمد عبدالله المؤلف والمخرج وذلك من خلال بعض اللمحات مثل أوراق الدعاية لعضو مجلس الشعب تحت شعار الميكروفون والمرشح المستقل واحتماء بائع الشرائط المتجول به ومطاردة ذلك البائع حتى تلاشت لوحة الدعاية والمستقبل، فإنها لمحات على استحياء، وإذا كان الوضع السياسى والأمنى يكشف مطاردة «المستقل» فإن الفرق الغنائية المستقلة لا تقع تحت نفس الوطأة الأمنية بل هى وطأة اجتماعية. وبطل فيلم ميكروفون خالد «خالد أبوالنجا» يطل علينا بعد عودته من سفر طويل فى أمريكا، ليعيش مع والده بالاسكندرية وأحلامه غير واضحة الملامح.. فقط يرصد أن الوضع فى الاسكندرية التى هى جزء من مصر ليس على ما يرام، فحبيبته تخبره بأنها على وشك الهجرة لدراسة الدكتوراه وهى تخبره بذلك دون أن يعبأ بانهيار العلاقة، ويبقى خالد شارد الذهن والهدف إلى أن تقوده الصدفة إلى عالم ملئ بالفنانين الشبان الذين يقدمون أنماطا مختلفة من الغناء والموسيقى مثل الراب والروك وينخرط فى هذا العالم ليبدأ حياة جديدة يريد أن يكتشف معها نفسه، يحاول أن يساند هذه الفرق من أجل الظهور وإثبات وجودها لكن تفشل محاولاتهم بالفشل ليعودوا فى مشهد ربما هو الأفضل يجلسون جميعا على صخر شاطئ البحر ونظراتهم تتجه إلى مستقبل مجهول. الشحنة الإيجابية غير موجودة، لكننى أرحب أحيانا بشحنة سلبية تدعو للتأمل لا لليأس حسبما جاء الفيلم. ووسط هذا الزخم المتلاطم بغناء وموسيقى الفرق الغنائية نجد فتى وفتاة تربط بينهما علاقة حميمية يصوران فيلما كمشروع تخرج عن الفرق الموسيقية هذه، ويمشى الفيلم فى ارتجال آراء ربما أضفى واقعية صورة لكنه قلل من الشكل السينمائى وإلا سلام يا واقعيين. من اعترافات محمد دياب: إننى مع كل التجارب الجديدة.. عسى أن نعثر منها على ما يضيف بحق لتاريخ السينما المصرية وما يحدث تفاعلا حقيقيا لحركة حراك فنى واجتماعى وسياسى. من يعملون فى مجالنا عمرهم لن يطول، من الممكن أن أعمل فيلما لا أريده على غير إرادتى خوفا من المستقبل، كنت محظوظا لأننى عثرت على شريكة خارج مصر تمول فيلمى ولها حساباتها الخاصة وذلك بعد أن ظللت لمدة عامين مرعوبا من عدم مواصلة المشوار، أن تصنع فيلما تحت أى ظرف هذا هو المهم. أنا فى فيلمى أتحدث عن الصمت.. إلى أين سيأخذنا، لا توجد أى آليات، لكننا تحت الاختبار. شهادة من على أبوشادى: الدور الفنى للرقابة غير مقبول، هذه السينما ستفرض نفسها على الواقع شئنا أم أبينا لأنها قريبة منه وتقتحم قضايا أحجم عنها الجيل السابق. المخرج وائل عمر: الظروف الصعبة توفر ظروفا أفضل للسينما المستقلة، صناعها يدخلون فى مواجهة مع الجيل القديم. المخرج أحمد عاطف: كلنا تألمنا.. عانينا.. والظروف المادية تعوق الاستمرار، السينما المختلفة بدأت مع عمر 2000 والمستقلة مع «الغابة»، محاولة التعبير عن آلام المجتمع بدون متاجرة رخيصة.