«الكنيسة بتحمى الجامع والجامع بيحمى الكنيسة، كلنا هنا أهل. مفيش حد غريب على التانى». فى الجهة المقابلة لمسجد حارة الروم، تشد أم مينا على يد طفلها وتسرع خطواتها لتلحق القداس من بدايته. بينما تجلس رانيا بائعة الخبز أمام كشكها الصغير، يغيب وجهها وراء النقاب، ولا يبدو منه إلا عينان مختفيتان خلف نظارة سميكة. عندك عيش يا رانيا؟ يأتى صوت من شباك مطل على الكشك، فترفع رانيا يدها مشيرة بعلامة بالنفى. تتوقف أم مينا بجوار رانيا، ويدور حوار طويل، ينتهى بالعلاقة بين المسجد والكنيسة. فعلى بعد خطوات، ترتفع كنيسة العذراء المغيثة داخل الحارة. بحسب المصادر التاريخية، فقد بنيت كنيسة السيدة العذراء فى أواخر القرن الخامس أو مطلع القرن السادس الميلادى، على عهد البابا أرسيوس الأول. إلا أنها تهدمت، وتم غلقها عام 1026م. وظلت مغلقة حتى أعيد فتحها بعد على عهد البطريرك البابا خرستوذولس، ولكنها ما لبثت أن تهدمت أيضا، على عهد الناصر محمد بن قلاوون سنة 1321م وتم تجديدها للمرة الثالثة. وظلت الكنيسة مقرا للبابا حتى تعرضت لحريق كبير فى أوائل القرن التاسع عشر، فانتقل مركز البطريركية إلى الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية. تمر نوال وتتدخل فى الحوار. «دى اسمها نوال، بس هى مشهورة بنوال صابونة». تقول رانيا، موضحة أن المرأة التى تجاوز عمرها الأربعين عاما ولا زالت دون زواج، تقتات من شراء الصابون من تاجر كبير وبيعه لأهل الحارة. تستمر نوال فى الحديث: «ورحمة أمى الكنيسة بتساعد المسلم زى المسيحى، دا أنا باخد منهم شنطة فيها أكل كتير ولحمة ولما بتزنق، بلاقى عندهم مساعدة». يمر جرجس بعربة تحمل عصائر رمضان الشهيرة: خروب وتمر هندى وسوبيا. يفرك فى رأسه ويتدخل فى الحوار: «أنا حاسس إن حسنى مبارك الله يخرب بيته هو اللى كان بيعمل قلق فى البلد. إحنا بس نشوف أى حد من اللى بيقولوا فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين وإحنا نوريله نفسه على حق». يقترب عم أحمد، الذى تجاوز ال80 عاما، آتيا من جهة محله المهدم. «بلطجية الحكومة جت بعد الثورة بيوم، ظابط قالى إحنا جايين نهد المحل وطلب منى أعمل «محضر» فى القسم، مسافة ما جيت لقيتهم هادين الدكانة على اللى فيها.. كنت هتشل فى مكانى». «قالوا لى هنديك 300 جنيه شهريا لحد ما نصرف لك تعويض، طبعا ولا شفت من وشهم حاجة»، يكمل العجوز. يعيش عم أحمد فى باب الشعرية، لكن أغلب وقته فى حارة الروم، مبتسما يقول: «روحى كلها هنا فى الحارة، حتى اتأجرت أوضة عشان أحط فيها حاجة الزباين». لا يوحى شكل الغرفة التى يستأجرها عم أحمد بصلاحيتها للمعيشة الإنسانية، فعرضها لا يتجاوز المترين، وجدرانها على المحارة تكشف عن خرسانة المنزل، وفى داخلها قاعدة أرضية لحمام بلا باب، ومرتبة متهالكة لا ينام عليها أبدا: «أخاف السلم يقع عليا، ولا حد يحس بيا». يشير عم أحمد إلى مجموعة ملابس معلقة على جدار غرفته: «دى هدوم الناس بكويها وبعلقها هنا عشان ماتتوسخش بره». ينحنى الرجل ليجمع عددا من شماعات الملابس المبعثرة، ويكمل بأنفاس لاهثة: «فى سكان فى البيت عايزين يكرشونى، وصاحبة البيت رفعت الإيجار من 170 ل200 جنيه. بس هعمل إيه؟ فى أولاد حلال بيساعدونى، وأنا لو ماشتغلتش أحس إنى روحى هتطلع». لم ييئس عم أحمد بعد قرار هدم دكانته، لكنه استغل مساحة من حوش المنزل الساكن فيه وبموافقة صاحبة المنزل، وأخذ جزءا من المدخل ووضع فيه لوحا خشبيا كبيرا، يغطيه بقطعة قماش نظيفة اشتراها خصيصا ليبدأ الكى عليها. «لازم تكون القماشة زى الفل عشان هدوم الناس ماتتبهدلش».