«يعنى أقدم حارة فى الدرب الأحمر شوارعها ولا الزلط؟، بالله مش حرام ده يا ولاد؟». ببطء، يتكئ عم محمود على عصاه، وقد أدى لتوه صلاة الجمعة فى مسجد الغورى. يقع مسجد الغورى عند تلاقى شارعى المعز لدين الله والأزهر، بناه السلطان قنصوة الغورى. وكان الغورى أحد مماليك الأشرف قايتباى، واستمر فى خدمته حتى أعتقه، وتقلد عدة وظائف، ثم تولى حكم مصر فى 1501 ميلادية، وكانت نهايته عام 1516، فى معركة مرج دابق، والتى نشبت بينه وبين السّلطان سليم العُثمانى. وعلى عكس غيره من مساجد مصر القديمة، يبدو مسجد الغورى بلا قبة، فقد تم هدمها مرتين فى عهد الغورى نفسه، ثم أعيد بناؤها من الخشب عام 1881، لكنها لم تستقر، فتم هدمها مرة أخرى، وأقيم بدلا منها سقف خشبى ما زال قائما حتى الآن. يرفع عم محمود نظارته سميكة العدسات عن عينيه، كما لو أنه يمعن النظر أسفل قدميه، لا عن امتلاء أرضية الشارع بالحصى والطوب، لكنه ما يلبث أن يستغفر ربه سريعا. «كل سنة وإنت طيب يا أبومروة»، كلما مشى عم محمود خطوة أشار بيده موجها التحية لواحد من أصحاب المحال المتكدسة ما بين مسجد الغورى، ومحل عمله فى حارة الروم: «الهوا هنا حلو، بس العيشة يا حبة عينى مرة». «حلاق سابق لا مؤاخذة، بعد ما الحكومة هدت الدكانة اللى حيلتى». بسخرية يعلق عم محمود على وصف جيرانه له بأنه «أقدم حلاق فى حارة الروم». بيت قديم متهالك، بداخله عدة غرف مستقلة، وفى مدخله دكان منهار، امتلأ بالأنقاض: «هو ده دكانى بعد التعديل». بأسى يضيف عم محمود: «عصابة مجلس الحى هدوه، من يومها الزعل ضيّع نظر عينى الشمال». بانفعال، يشير عم محمود بيده ساردا ما حدث: «والله عملت اللى ما ينعمل عشان أحافظ على الدكانة، ده الظابط اللى جه معاه شوية عيال أشكالهم ترعب، شالنى من قدام عتبة المحل هيلة بيلة، وهدها». من اتجاه سبيل محمد على، يظهر رجل يشير إليه عم محمود: «تعالى تعالى.. ما احنا فى الهوا سوا». السبيل أنشأه والى مصر محمد على باشا صدقة على روح ولده إسماعيل، والذى توفى قى السودان عام 1822م، بواجهة رخامية محلاة بنقوش وكتابات جميلة، وكان فى الدور العلوى منه «كتاب» لتعليم القرآن الكريم والآداب، وكان يجتمع أسفله الفقراء والمساكين فى العهد الخديو، حتى كف عن ضخ الماء منذ نحو مائة عام. بملامح جامدة وتجاعيد محفورة على وجه أشبه بمنحوتة حجرية، يأتى عم أحمد وفى يده الشبيه بوجه تمثال منحوت مقشة تآكلت خيوطها، يتحدث موجها الخطاب لصديقه: «فى مصيبة واللا إيه؟». يربت عم محمود على كتف صديقه أحمد، ويقول: «عم أحمد ده عِشرة عمر، قصته نفس قصتى، بس هو مكوجى ونفس العصابة هدت دكانته فى غمضة عين». مبتسما، ينظر عم أحمد لصديقه، سعيدا بحماسته فى الحديث عنه، ويحكى: «الثورة قامت من هنا، ولقيت بتوع الحى جايين معاهم أمر بهد دكانتى. قال إيه عشان البيت آيل للسقوط، وطبعا كل ده كذب، كل إلى بيجى يهد بيت هنا أو محل بيكون واكل فلوس قد كده، بس ده قبل الثورة». لا تختلف قصة عم أحمد عن صديقه العجوز كثيرا، فقد حمل لقب مكوجى الحارة لأكثر من 50 عاما، لكنه قرر بعد هدم دكانه أن يستأجر غرفة صغيرة يضع فيها بعض لوازمه الأساسية من قطعة قماش جديدة والمكواة وبعض الشماعات البلاستيكية ليستمر فى عمله وكسب قوته، الذى يتراوح بين 6 و10 جنيهات فى اليوم. «الأوضة دى عشان اشتغل فيها بس ولما بحب أريح، باطلع فى حوش البيت، أصل جوه مات واحد قبل كده وهو نايم، سلم البيت وقع عليه». بلهجة عفوية يحكى عم أحمد، مبررا عدم نومه فى حجرته التى يدفع لها مائتى جنيه إيجارا شهريا.