إضعاف الشعوب والعمل على إغراقها فى محيط من الفقر والجهل والمرض هو الهدف الأسمى لأى محتل يسعى للسيطرة على البلد الذى يحتله، ولذلك لم يتورع الاحتلال الانجليزى عن نشر الكثير من الآفات الأخلاقية فى المجتمع المصرى، كى يقتل من خلالها نزوع المصريين للاستقلال والمطالبة بالجلاء، ومن أبرز هذه الآفات التى زرعها الاحتلال الانجليزى زرعا فى مصر نشر الخمارات وبيوت البغاء، وحانات القمار، إلى أن جاءت ثورة 1919 فحاولت النخبة المثقفة جهدها أن تجعل هبة المصريين وتوحدهم لتحقيق أمانى الوطن فى الاستقلال مناسبة مهمة لتخليص المجتمع من العادات التى تعوقه على الإنتاج، ومن الخمر والقمار. هذه الظاهرة تحدث عنها د. محمد حافظ دياب فى كتابه «انتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر»، فى معرض حديثه عن الأوضاع الاجتماعية فى مصر قبيل قيام ثورة 1919 فقال «شهدت البلاد موجة من (التفرنج) و(الألافرانكة) تمثل فى الانحلال الأخلاقى، مع انتشار الخمور والمواخير والأجنبيات ودور القمار، حيث زاد خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر عدد المقاهى والبارات وصالات القمار بأكثر من ثلاثة أضعاف، وظهرت الإعلانات فى الصحف تبين (مميزات الخمور من الصنف العال.. وارد فرنسا وإيطاليا واليونان)، وصارت محال المسكرات تفتح فى كل مكان، مما زاد من حوادث الجرائم والإخلال بالأمن العام. ويؤكد (بلنت) فى مذكراته، رعاية الإنجليز لهذه الآفة، فيتحدث عن «نعمة الاحتلال على اليونانيين أصحاب الحانات الذين أخذوا ينتشرون فى القرى، ولا شك أن الفلاح الذى يتعاطى الخمر سيفقد استقلاله الاقتصادى فيمد يده للاقتراض، ثم لا يلبث أن ينزلق فى مهاوى الرذيلة، وقد حاول (بلنت) إثارة الموضوع مرارا فجاء الوعد باتخاذ الإجراءات اللازمة، لكن النتيجة التى وجدتها بعد فترة هى زيادة عدد الحانات. وسجل الفنان نجيب الريحانى هذه الموجة، حين جس نهايات الحرب العالمية الأولى شخصية «كشكش بك»، عمدة كفر البلاص، وخادمة «زغرب»، لما كان يهرع إلى مغادرة قريته إلى مصر المحروسة، وجيبه ممتلئ بنقود بيع محصول القطن فينفقه هناك على العاهرات. والقضاء على هذه الآفات الاجتماعية كان محل اهتمام عدد من ثوار 1919، فأكدت صحيفة «البصير» السكندرية فى 11 رمضان 1337ه (9 يونية 1919م) أنه حان الوقت ليتخلص المجتمع المصرى من الآفات الأخلاقية، فنشرت مقالا قالت فيه «قامت الأمة المصرية تلبى نداء وطنها العزيز، فلها بذلك فخر يسجله التاريخ، ولكن وياللأسف فإن أبناء الوطن تركوا وجهتى الأخلاق والاجتماع، وهما أول شىء يجب أن نعد له العدة.. ونشد له المطايا. وإن كانت أمانى الوطن السياسية تولى الوفد أمرها، والسعى لها لدى مؤتمر الصلح، ولم يبق علينا إلا أن نقوم حياتنا الاجتماعية والأخلاقية». وأضافت الصحيفة «لا ندرى لماذا لم يتشبه المصريون بالولاياتالمتحدة والصين فى مصادرة الخمور والأفيون وهم كانوا أول متشبه بهم مع إخوانهم الغربيين فها هى الولاياتالمتحدة سنت قانونا حوى عقابا صارما لمن يشرب الخمر، وها هى أمة الصين حرقت أفيونا بما يقرب من ثلاثة ملايين جنيه، وهذا رغبة فى تطوير البلاد من تلك الجرائم القتالة، فإلى متى يترك المصريون الخمرة وهى أول شىء يجب أن يستأصل حيث تنفث فيهم سمومها المهلكة». وشددت «البصير» على أنه «يتعين على المصريين أن يتركوا كذلك القمار، فضرره أعظم من الخمر بتفشيه بين الكبير والصغير، ولا ريب فى أن الخمرة تذهب بالعقول كما يذهب القمار بالثروة، ويالطامة الكبرى والمصيبة العظمى عندما يجتمعان فى شخص وهو الغالب فيوديان بحياته وثروته إلى الحضيض الأسفل، ولو كان له ملء الأرض ذهبا، فالخمرة أم الفساد.. والقمار أبوالبغى.. ومنهما تتولد الشرور، فلو تسلطا على فقير فماذا يصنع.. أو على ذى عيلة فماذا بعيلته يفعل؟.. لا يجد سندا سوى طريق البغى والفجور.. يسرق ويقتل ويقطع الطرقات. ويؤكد المقال أن انتشار هذه الآفات من خمارات وحانات للقمار أدت إلى تراجع المجتمع «فتركنا التجارة يسبح فيها الغربى ويجنى ثمارها اليانعة وقطوفها الدانية، وترك التاجر المصرى نفسه للوسطاء الذين يزجون إليه الردىء من البضائع فى ثوب السلع الطيبة».