علمت بوجوده فى مصر، لم يأت إليها كناشر لبنانى، وإنما جاء لمناسبة ذكرى مرور سنة على وفاة صديقه الدكتور نصر حامد أبوزيد، وليزور ميدان التحرير الذى تحول إلى رمز لحيوية الثورة المصرية. قرأت له عدة مقالات شفيفة فى حب مصر، وثورتها. استغربت قليلا من نظرته المملوءة محبة، التى تفوق أحيانا مشاعر بعض المصريين، الذين ينظرون للثورة، كأنها سبب كل البلاوى، وليس نظام مبارك الفاسد. قرأت له مقالة بالأخبار اللبنانية: «جرح الثورة المصرية وإسقاط النظام الطائفى»، بعدها، استغربت أكثر، وقلت ربما كانت له «عشرة» لا تنسى فى القاهرة، أو شىء من هذا القبيل. فى بعض مقاطع المقالة يقول: «ثورة طهرت شعبها وطهرتنا من الخوف عبر نوع من السعادة والأمان. عبر مشاعر جعلتنا نطفو على بساط من الأحلام، بل فتحت أبوابا للأمل تجاوزت كل أحلامنا، حتى صارت مصر، مصرنا، محط أنظار العالم. حتى صارت مصر، مصرنا، الشريان الذى يغذى آمالنا بالمستقبل». بعد الإحباط الذى أصابنا؛ لأن الثورة ترجع إلى الخلف، قررت أن يكون أول سؤال له فى حوارنا معه: ما كل هذا الإعجاب بالثورة التى تشهد معوقات، وكأنها جنين بالشهر السابع؟. لكن قبل الميعاد بدقائق قليلة، عدت مرة أخرى إلى مقاله، فوجدت إجابة عن سؤالى، رغم أنه يتحسر على خدش الثورة بأحداث طائفية: «ولأن مصر هى مصرنا التى نحب، ونعول عليها كثيرا، فقد استعدنا معها الإحساس بأننا نستطيع أن ننفض عنا خوف كل تلك السنين وصمتها وقهرها». هكذا مثلت انتصارات ثورة مصر، بعد مفاجأة تونس، قوة فتحت أبواب التغيير فى العالم العربى كله. العالم العربى كله تحرك. ومهما كان الظلام حالكا، فإن بعض الضوء يلوح فى كل مكان. وراحت الضحكات تنطلق ممزوجة بآمال الحرية والنور». قبل سؤالى الذى بدلته، وجدت ياغى يؤكد: «بعد وصولى إلى القاهرة بنصف ساعة كنت فى ميدان التحرير، هذا الميدان الذى كنت أتمنى أن أكون فيه قبل 11 فبراير، لكنى لم أستطع». وهنا بدأ الحوار الذى تم فى يوليو الماضى، وقت اعتصام الثوار بالميدان. ● معروف أن تلاحق الأحداث يفقد التعليقات طزاجتها، لكن ما رؤيتك لما يحدث الآن فى الميدان؟ الجو مزعج «شوية». الباعة الجائلون حولوا الميدان إلى منطقة شبه سياحية، لا مكان للاعتصام. لكن هؤلاء المعتصمون فى الميدان، وعلى الرغم من كل الانتقادات، يمثلون حيوية الثورة أو لنقل عصب الثورة. إنهم يدافعون عن ثورة كل الشعب المصرى. إنهم يتحملون عبئا كبيرا فى وقت كل شىء فيه يهتز، ويواجه المعتصمون مشاكل كبيرة على مدار الساعة مثل تأمين الميدان، والاهتمام بالمضربين عن الطعام..إضافة إلى كل ما يُقال عنهم من أنهم يعيقون حياة الناس ومأجورون.. للأسف كأنما نغمة «الكنتاكى» تعود. فى الحقيقة، الثورة المصرية مدهشة، ومن جهتى أعتبرها أعظم حدث فى حياتى. لم أكن أتوقع روعة ما حدث. كنت ككثيرين غير لدينا الثقة والأمل بأن مصر ستنهض؛ لأن النظام السابق وصل إلى درجة من الفساد، كان لابد أن يسقط. نموذج فى تاريخ الثورات السلمية ● لماذا كنت متوقعا هذه الثورة وتلك النهضة؟ لا أقول إننى كنت أتوقع هذه الثورة، ولكن لابد من الانتباه إلى أن المصريين قاموا باعتصامات واحتجاجات متلاحقة، وبمثابرة، وذلك لسنوات قبل قيام الثورة، وأنشأوا حركات سياسية مهدت لهذه الثورة. ومثل هذه الاعتصامات، بل المواجهات، بهذا الاصرار وهذه الكثافة لم تحصل فى أية دولة عربية سوى مصر، وجزء كبير من هذه التحركات كانت لدعم حركات المقاومة فى العالم العربى، هذا الدور فى قيادة العالم العربى كان تخلى عنه نظام مبارك لقاء حفنة من الدولارات التى لم يصل منها شىء إلى شعب مصر. وما كان لهذا الإفقار للشعب المصرى وهذا الإخضاع وهذا القهر أن يستمر. الذى لم أتوقعه هو هذا الجمال الذى قدمته الثورة. الثورة نموذج غير مسبوق ليس فى الثورات عامة، وإنما فى تاريخ الثورات السلمية أيضا، ابتداء من غاندى مرورا بثورات أوروبا الشرقية. وميزة الثورة المصرية، أن الثورات الأخرى أنتجها المحيط وساعدها بدافع مصالحه، أما فى مصر المحيط لم ينتج الثورة، بالعكس المحيط ينتظر ما ستقوم به مصر، أى يحمل مصر عبئه. شعوب العالم العربى كلها ترنو إلى مصر. ● ما ملاحظاتك على ما يحتل هذه الأيام، بعد أن رأيت ما يحصل فى ميدان التحرير؟ إذا جاز لى إبداء ملاحظات، أقول إن أولئك الذين شكلوا عصب الثورة، حتى الآن، يقفون فى موقع المدافع فقط عن مكتسباتها، ويترفع الثوار عن تقلد المناصب التى من المقرر أن تنفذ مطالب الثورة. وهذه طهرانية مبالغ فيها. وهناك مفارقة أخرى، إذ يأتى وزير تكنوقراط بمستشار من الثوار، فى حين أنه يجب أن يكون الوزير هو مستشار للثائر، يقوم بالعمل التقنى، والثائر يقوم بالعمل السياسى. لا يجوز أن يكون الثوار خارج السلطة التى جاءت بها الثورة والتى يجب أن تعبر عن طموحاتها. إذا كان المجلس العسكرى يعوق الثورة، فمن يستطيع أن يقول ذلك؟ بالطبع ليست حكومة تكنوقراط، وإنما الثوار أنفسهم. تجربة عصام شرف، وهو محبوب وله تاريخ مشرف، تقول إن هناك عجزا فى مصارحة أو ربما مواجهة القوى التى تعوق تحقيق مطالب الثوار. انقسام دينى ومذهبى ● أجد فى نبرتك بعض الحزن..لماذا؟ بعض الحزن، لأن الثورة هذه الأيام بالذات تخوض مواجهة مع المجلس العسكرى الذى لعب دورا فى حماية الثورة. ولأن مصر منقسمة، وهناك من يلعب على العصبيات الطائفية والدينية التى تشكل أكبر تهديد لأى تغيير يهدف إلى بناء دولة القانون التى تحمى الجميع، فالدولة الدينية هى دولة الحروب المستمرة، يشهد على ذلك ما حصل ويحصل فى السودان والعراق وصولا إلى إيران وأفغانستان وباكستان، ولا ننسى ما يحصل فى لبنان بسبب الانقسام الدينى والمذهبى. حزين، لأن النظام السابق لا يزال موجودا، ليس برموزه فقط، بل أيضا بنمط العلاقات التى رسخها فى المجتمع وفى طريقة ممارسة السلطة، وهو نمط غير حضارى يقوم على إرضاء الحاكم وعلى الخضوع. ولأن النظام القديم أنتج ذهنية فاسدة، وطريقة تفكير مازالت موجودة فى السلطة وفى الذهنية وليس من السهل التخلص منها. ولكن هناك أشياء تدعو إلى السعادة. انها الأخلاق التى أنتجتها تلك الأيام الرائعة لحياة الميدان، وهى أيام لن تنسى وممارسات تعتبر نموذجا حضاريٍا. بل هو نموذج إنساني. فأنا أسكن بالقرب من ميدان التحرير، وأحمل جواز سفر يدل على أننى غير مصرى، وفى كل مرة أدخل الميدان أحس بنوع من التقدير والاحترام مع بسمة بشوشة ممن يطلب منى هويتى. ● سرحت بعض الشىء، وحسن ياغى يتحدث عن حزنه الممزوج بنسبة تفاؤل، ثم تداركت الأمر، وسألته: ما الحل؟ هناك محطة ثانية، وهى مهمة فى أعمال الثورة، وأقصد 8 يوليو، التى تمثلت فيها قوة رمزية كبيرة من أسر الشهداء، وقوة سياسية تطالب بمحاكمة مبارك ورموز نظامه، فضلا عن المطالبة بمحاسبة حكومة شرف، ليس لشخص عصام شرف، ولكن لحكومة، تبدو بلا صلاحيات. فالتغييرات الحكومية غير مفهومة وبطيئة، وحتى عندما طرح اسم وزير شاب ومن الثوار كوزير للاتصالات، بدأ الحديث عن علاقته بإسرائيل، فى عملية تشويش من الواضح أنها مقصودة. وبتهمة، لو صحت فإنها غير ذات قيمة. أنا كناشر أتعامل مع دار نشر فرنسية كبيرة، وأعرف أن مديرها من المتحمسين لإسرائيل، فهل هذا يفسر على أننى على علاقة أيضا مع الإسرائيليين؟! جهة أمنية من عهد التخلف ● بمناسبة النشر ما حكمك على حركة تنقل الكتاب الآن، وما موقف الرقابة من الكتب؟ لا أستطيع الحكم الآن على هذه الحركة، فالثورة فى مصر لم تكتمل بعد، فلاتزال القوانين القديمة، والمجحفة، سارية. لكن هناك بعض «التسامح»، إذا جاز التعبير، من بعض الأشخاص تجاه الكتاب، على اعتبار أننا فى ثورة. من المؤكد أنه من المخجل أن تسير الأمور كما كانت قبل الثورة من رقابة وقمع وتضييق على الحريات. ● وهل تعتقد أن التدخل الوحشى للأمن سيتغير عن الأيام السابقة على الثورة؟ حسب تجربتى السابقة فى القاهرة، هناك جهتان للمنع، الأمن بما يخدم مصالح النظام، والأزهر بما يراه أنه يتعارض مع الدين. ولم أعرف عمليات منع من جهات أخرى. وعندما يأتى اليوم الذى نرى فيه أن هذه الجهات أصبحت فى خدمة الشعب المصرى، لا فى خدمة النظام، ولا فى خدمة أفكار تنتمى إلى عهد التخلف، سيكون تم «انجاز» الثورة. يسود جو من المخاوف على الثورة وحديث عن انتصار الثورة المضادة، وعن هذا الحلم الذى انتهى. هذه ثورة لن تتوقف، أمامها تحديات، ربما أصعب من أيام الثورة الأولى، والعمل الطويل بدأ الآن، فالثورة ليست فقط اسقاط نظام، إنها بناء نظام، وهذا يحتاج إلى سنوات. ستمر الثورة فى مراحل محبطة، ولكنى من بين القائلين إنها ستستمر، بل وستقود مصر العالم العربى نحو الانتهاء من تلك المرحلة السوداء التى سادت فيها أنظمة تقوم على النهب والقمع. إنها مصر التى قامت بثورة لا مثيل لها، أنموذج جديد فى الثورات. إنها مصر الدولة الأكبر فى العالم العربى والأكثر قوة، والأعرق تاريخا. مصر التى ستعود لتأخذ دورها فى بناء الحضارة. ● قلت إن المفكر نصر حامد أبوزيد الذى تحل ذكراه هذه الأيام، كان عنده إحساس أن مصر ستتغير، وأنها دخلت فى نفق لابد الخروج منه، لأنه وصل إلى مرحلة الانفجار؟ لقد كتبت فى مقدمة آخر كتاب نشرته لنصر أبوزيد «التجديد والتحريم والتأويل» مشيرا إلى أن كل هواجسه كانت منصبة على مصر، كان يفكر بقضايا نظرية أو اجتهادية أو بحثية، ومصر هى النموذج الذى فى باله، معتبرا أن مصر يجب أن تتغير، وأن تغير مصر سيقود العالم العربى بكامله، وسيترك تأثيرا كبيرا فى أفريقيا المنهوبة، بل لدى كل شعوب العالم المقهور». ● رغم كلامه شديد البهجة والإيجابية لم أستطع منع نفسى من سؤاله عن دور المثقفين المصريين فى التمهيد للثورة؟ الثقافة العربية بشكل عام غابت أن تكون قوة مؤثرة منذ أواخر الثمانينيات. المثقفون العرب الذين لهم التأثير القوى فى المجتمع، يتجاوزون الآن سن الستين على الأقل، إذا، هناك فجوة بين هؤلاء المثقفين، والشباب الذى قام بالثورة. وعلى الرغم من أن أغلب المثقفين المصريين شاركوا فى الثورة وكانوا حاضرين فى الميدان، لكن هناك «ثقل»، و«قلة حيلة» بسبب السن، كما أن أفكارهم أيضا أصبحت بالنسبة إليهم هم أنفسهم موضع تساؤل، ولا أستثنى نفسى طبعا. ولكنى متفائل بأن الثورة سوف تخلق إنتاجا فكريا وإبداعيا، ستخلق ثقافة وفنا؛ لأن روح الثورة صارت موجودة، وما عاد يمكن القضاء عليها. وما حصل فى تلك الأيام، خاصة مابين 25 يناير وحتى قيام حكومة شرف، سيتم التعبير عنه، خاصة من هؤلاء الشباب الذين خاضوا غمار تلك الأيام مدفوعين بمشاعر أذهلتنا نحن القابعين أمام الشاشات. فكيف كانت مشاعر المقيمين فى الميدان؟ ثورة حقيقية ● لقد قامت فى مصر عدة ثورات.. لكن لم تكتمل. لماذا لا تكتمل الثورات المصرية؟ أنزعج منى بسبب هذا السؤال، كأنه يقول لى: «لا تقلل من شأن ثورة 25 يناير»، موضحا أن كل الثورات السابقة هى ثورات للتحرر الوطنى، وهى ثورات قامت فى مصر، كما فى غيرها من البلدان العربية. لكن الثورة الحقيقية، من وجهة نظرى، هى التى تريد بناء الوطن، وهذا ما يريده ثوار 25 يناير. الثورات تغير كل شىء، وهذا مسار. هذه أمور لا تتحقق فى بضعة أشهر، بل ولا فى بضعة سنوات. هذه روح ومشاعر تدفع الثوار إلى القيام بما لم نكن نتوقعه. لقد حصل ذلك. هذه عملية تحول فى المجتمع انها تحتاج إلى وقت، وقد بدأت، لقد ولى زمن الخوف وسيعبر المجتمع عن نفسه. قد يكون ذلك بما لايرضيك أو يرضينى ولكن سيكون متاحا أمامنا العمل على تغيير ذلك. لذلك أنا أراهن على حيوية جديدة فى الثقافة المصرية بعد ثورة 25 يناير. دائما، أقول إن الصور التى قدمتها ميادين الثورة وما زالت تقدمها ستظهر فى أعمال إبداعية عظيمة، كتابة وابداعا وفنا. ● وما رأيك فى الكتب التى دونت للثورة، وتعتبر نفسها كتبا أدبية؟ هناك بعض الكتب الجميلة، ولكنها متسرعة بعض الشىء.