لا أخفى قلقا من صك وتداول مصطلح «الأمن الفكرى»، وهذا القلق يتضاعف عن مرات إذا عرفنا أن الجهات الأمنية هى التى أطلقته، الأمر الذى يضفى على العملية عنصرا بوليسيا لا تخفى دلالته. صحيح أننا درجنا على الحديث عن الأمن القومى والأمن الغذائى والأمن المائى وتطرقنا إلى الأمن الاجتماعى والسياسى، وكان بوسعنا فى كل مرة أن نحدد بصورة أو أخرى الدائرة التى يلتمس فيها ذلك «الأمن» وملامح وجوده على أرض الواقع، لكن إضافة الأمن الفكرى إلى القائمة تضعنا بإزاء مصطلح فضفاض للغاية، لا تعرف حدوده وتحيرنا كثيرا مقاصده. ناهيك عن أنه يثير عديدا من الأسئلة حول معايير قياس الأمن المنشود، والجهة التى يحتكم إليها فى تحديد مدى توفر ذلك الأمن من عدمه. كنت قد سمعت ذكرا لمصطلح الأمن الفكرى فى تونس، التى لا صوت فيها يعلو فوق صوت الأمن. ولذلك أقيم فيها مقر مؤتمرات وزارة الداخلية العرب، الذين هم أنشط الفاعلين فى العمل العربى المشترك، وقيل لى مؤخرا إن المصطلح بدأ يتردد فى المملكة المغربية، التى تخوض فيها الأجهزة الأمنية معركة ضد الحركات الإسلامية، المعتدلة منها والمتطرفة. وبالمناسبة فإن البعض فى المغرب أصبحوا يتحدثون عن «الأمن الروحى»، فى تعبير عن التحيز للطرق الصوفية التى أصبحت تحظى برعاية خاصة هناك، ربما كرد فعل لظهور جماعات العنف المسلح، التى تتحدث وسائل الإعلام عن انتسابها إلى تنظيم القاعدة. الجديد فى الأمر أن مصطلح «الأمن الفكرى» الذى ظل يتردد فى الفضاء العربى خلال السنوات الأخيرة بدأ يتبلور فى أوضاع مؤسسيه على أرض الواقع. فقرأنا عن كرسى الأمير نايف بن عبدالعزيز (وزير الداخلية السعودى) لدراسات الأمن الفكرى فى جامعة الملك سعود بالرياض.ثم نظم فى الأسبوع الماضى «المؤتمر الوطنى الأول لدراسات الأمن الفكرى» فى إطار الجامعة ذاتها. الأمر الذى يعنى أن الموضوع بدأ يكبر وتكبر معه بالتالى ذراع الأمن ودوره فى الساحة الثقافية، التى نعلم أن الأمن لم يكن غائبا عنها. ولكن الوضع المستجد يضفى شرعية على حضور ودور الأجهزة الأمنية، التى ظلت طيلة السنوات الماضية تعمل وراء الأستار وبعيدا عن الأعين. تابعت ما نشر عن مؤتمر الأمن الفكرى الذى عقد فى الرياض مؤخرا، ووجدت أن تركيزه الأساسى انصب على كيفية محاربة الفكر المتطرف والدعوة إلى الوسطية والاعتدال، وهو أمر له أهميته فى السعودية وفى دول المنطقة الأخرى. من ثم فلا خلاف حول الموضوع، لكن التحفظات تثار كيفية التعامل معه والجهة أو الجهات التى يناط بها التصدى للمشكلة. أدرى أن الموضوع كبير، أكبر من أن يتصدى له فرد بذاته كما أنه أكبر من أن يتم تناوله فى هذه الزاوية. لكن لى فيه كلمات أولاها أننى لا أخفى امتعاضا من استخدام مصطلح «الأمن الفكرى»، وأعتبره المدخل الغلط للتعامل مع الموضوع. كما أننى أسجل اعتراضا على تسليم الملف إلى أجهزة الأمن، التى لا ينبغى أن نقلل من دورها، ولكن هذا الدور يأتى لاحقا لأدوار جهات أخرى أو مكملا لها، ذلك أن التطرف أو الإرهاب هو مشكلة مجتمعية قبل أن يكون مشكلة أمنية. والتصدى لأى منهما لا ينبغى أن يترك للأمن وحده، وهو لن يحقق نجاحا إلا إذا فتحت أبواب الاعتدال واسعة، وتضافرت فى ذلك جهود مؤسسات الدولة الأخرى، السياسية والتعليمية والدعوية والثقافية والإعلامية، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدنى. إننى أخشى أن يكون مصطلح الأمن الفكرى مرادفا للقمع الفكرى، وهذا الهاجس لن يزول إلا إذا أخرجنا الأمن من الموضوع، وكففنا عن مطالبة أجهزته بتدارك آثار فشل السياسة وخيباتها.