فوجئ المصريون صباح يوم 23 مايو الحالى بخبر رفض مصر توقيع اتفاقية الإطار التعاونى لدول حوض النيل Cooperative Framework Agreement التى كانت قد أعدت للتوقيع النهائى عليها فى اجتماع وزراء الموارد المائية لدول حوض النيل العشر الذى انعقد فى مدينة كنشاسا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية فى يوم 22 مايو الحالى. وقد اعترضت مصر على عدة بنود جاءت فى الاتفاقية، كان من أهمها عدم تضمين البند 14 من الاتفاقية والخاص بالأمن المائى نصا صريحا يضمن لمصر حقها التاريخى فى الحصول على حصتها الحالية من مياه النيل. كما اعترضت مصر أيضا على عدم تضمين الاتفاقية نصا يلزم دول الحوض بالالتزام بشروط البنك الدولى عند القيام ببناء المشروعات أو السدود على النهر التى تتطلب الإعلان وأخذ رأى وموافقة دول الحوض قبل القيام بها. وبالإضافة إلى ذلك فقد طلبت مصر القيام بتعديل الفقرتين أ، ب بالمادة 34 من الاتفاقية بحيث لا يتم اتخاذ أى تعديل فى الاتفاقية إلا بالإجماع أو على الأقل بحيث يتضمن صوت واحد على الأقل من دولتى المصب وهما مصر والسودان، وذلك تجنبا لإمكان استخدام أغلبية دول المنبع لتمرير ما يمكن أن يضر بمصالح دولتى المصب. ومن الجدير بالذكر أن إعداد هذه الاتفاقية قد أخذ من الوقت قرابة الاثنتى عشرة سنة، فقد بدأ الإعداد لها فى سنة 1997 حين اجتمعت اللجان الفنية من خبراء دول الحوض وفى سنة 2007 تم عرض ما تم الاتفاق عليه فى هذه اللجان على مجلس وزراء الموارد المائية لدول الحوض وبعد مناقشات مستفيضة لم يتخذ المجلس قرارا بشأنها، وإن كان قد أحالها إلى رؤساء الدول المعنية لحل ما لم يتمكن الوزراء من التوصل إلى رأى نهائى فيها، التى جاءت فى مقدمتها قضية الأمن المائى لدول الحوض وعلى الأخص دولتا مصب مصر والسودان. وفى أعقاب هذا الاجتماع قام رئيس المجلس وزير الموارد المائية لدولة الكونغو بزيارة دول الحوض العشر قرر فى إثرها عقد حفل التوقيع النهائى عليها فى مدينة كنشاسا يوم 22 مايو الحالى ولما كانت أمور مبادرة حوض النيل على وجه العموم ومناقشات لجانها على وجه الخصوص تحاط بالسرية وعدم الشفافية فمن العسير أن يعرف المرء شيئا عن نتائج اتصالات هذا الوزير مع رؤساء دول الحوض، وإن كان قراره بعقد اجتماع 22 مايو الحالى للتوقيع النهائى على الاتفاقية يوحى بأنه حصل على هذه الموافقات. الشىء الذى يلفت النظر فى خبر امتناع مصر عن توقيع اتفاقية الإطار التعاونى لدول حوض النيل هو هذا الانقلاب الكامل الذى حدث فى توجهات مصر التى ظلت على طول سنوات الإعداد لهذه الاتفاقية والتى استمرت لحوالى الاثنتى عشرة سنة تطمئن المصريين على أن حقوقهم التاريخية فى مياه النيل محفوظة تماما، بل إن حصة مصر من مياه النيل ستزيد عندما يتم التوقيع على هذه الاتفاقية، وكنت قد نبهت مرارا على صعوبة حصول مصر على أى حصة إضافية من المياه، بل ونبهت إلى أن الحفاظ على كمية المياه التى حصل عليها مصر فى الوقت الحاضر سيكون من أعظم إنجازات السياسة الخارجية المصرية. والحصة الحالية التى تحصل عليها مصر والتى تقدر بخمس وخمسين ونصف المليار متر مكعب سنويا هى نتيجة اتفاقية كانت مصر قد أبرمتها مع السودان فى سنة 1959 وهى الاتفاقية التى اقتسمت فيها البلدان كامل المياه التى تصلهما والتى بلغ متوسطها خلال سنى القرن العشرين حوالى 84 مليار متر مكعب سنويا. ولم تعترف دول حوض النيل وعلى الأخص إثيوبيا التى يجىء منها أكثر من 80٪ من جملة المياه التى تصل إلى دولتى المصب بهذه الاتفاقية، وإرضاء لإثيوبيا فقد قررت كل من مصر والسودان بإضافة بند فى الاتفاقية يؤكد على حق دول المنبع فى هذه المياه وعلى استعدادهما لتخصيص حصة منها لإثيوبيا بالذات إذا تأكد لها أنها فى حاجة إليها على أن تخصم هذه الحصة مناصفة من أنصبتهما، على أن هذا البند لم يرض إثيوبيا التى استمرت فى رفض الاتفاقية كلية والشكوى منها على الدوام، وفى الحقيقة فقد كان تبرير مصر والسودان للاستيلاء على كل المياه التى تصلهما أمرا صعبا أمام دول الحوض بل وأمام الرأى العام العالمى على الأخص بين خبراء البنك الدولى الذين ما فتئوا يكتبون تلك المذكرات ضد هذه الاتفاقية على طول عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، وقد وجدت مصر تبريرا معقولا لحصولها على هذه الحصة الكبيرة من مياه النيل التى أصبحت بالكاد تكفى احتياجاتها الحالية فضلا عن المستقبلية، حيث إنه سيكون من العسير أن تقبل بنقصانها بأنها دولة كثيفة السكان ليس لديها أى مصادر أخرى للمياه، على عكس إثيوبيا ودول الحوض الأخرى التى تتمتع بوجود مصادر أخرى للمياه غير نهر النيل. ولذا فقد بنت مصر سياستها المائية على ألا تدخل فى أى مفاوضات مع دول الحوض بشأن توزيع مياه النهر دون أن يؤخذ فى الاعتبار كل مصادر المياه الأخرى المتاحة لدول الحوض كالأمطار والمياه الجوفية ومياه الأنهار الأخرى التى تشق مجاريها هذه الدول، كما تبنت مصر أيضا خلال هذه الفترة سياسة عدم إدخال طرف ثالث فى مفاوضاتها مع دول الحوض عند الدخول فى مباحثات حول توزيع مياه النهر حتى لا تضيف عنصرا ضاغطا جديدا على هذه القضية شديدة الحساسية بالنسبة لمصر، على أن هذه السياسة كلها تغيرت فى تسعينيات القرن العشرين فى أعقاب انتهاء الحرب الباردة وتغير توجه سياسة مصر الخارجية نحو الانفتاح على العالم وقبول اشتراك البنك الدولى لمناقشة أمور النهر، وقبلت مصر الدخول فى مبادرة تحت إشراف البنك الدولى لإعادة توزيع النيل، وكان من الأجدر فى حال قبول تدخل البنك الدولى أن تصر مصر على أن تكون المبادرة بشأن التوزيع العادل لكل مصادر المياه المتاحة لدول الحوض بدلا من قصرها فقط على نهر النيل. فى هذه الحالة الأخيرة فقط سيكون فى مقدور مصر أن تدافع وبقوة عن حقها فى الحصول على نصيب كبير من مياه النيل. اقتصرت القضية على مياه النيل فقط، لأن أمر الدفاع عن الحصة الكبيرة التى نالها مصر فى الوقت الحاضر سيكون أمرا صعبا، كما أيقنت الحكومة ذلك بعد مفاوضاتها الطويلة التى استمرت لأكثر من عقدين مع هذه الدول. وقد ظلت سياسة وزارة الرى المصرية وعلى مدى طويل مبنية على هذه الفلسفة وكان بمراكز أبحاثها العريقة مركز كامل لتوثيق مصادر المياه المختلفة لدول حوض النيل بما فى ذلك ما يتاح لها من أمطار ومياه جوفية وأنهار أخرى، وذلك استعدادا للدفاع عن نصيب مصر من مياه النيل عندما يحين وقت الحديث عن إعادة توزيع مياه النهر، وقد أهملت مصر أعمال هذا المركز ولم تعد ترصد هذه المصادر بل وأعمال مراكز بحوثها عامة وهى المراكز التى كانت ولسنوات طوال مراكز متقدمة للبحث العلمى الذى كانت تذاع أبحاثه على كل المشتغلين بالعلم، فقد شمل تطوير وزارة الرى فى سنواتها الأخيرة خصخصة هذه المراكز واسناد أعمالها إلى المكاتب الاستشارية المحلية أو إلى الحكومات الأجنبية. إن الأعمال التى تنتظر وزير الرى الجديد كثيرة لإعادة هذه الوزارة العريقة إلى سابق عهدها المجيد