يشرح هذا المقال الدوافع لموجة اقتراحات القوانين التى تغرق جدول أعمال الكنيست. وجلها قوانين تقيِّد مظاهر الوطنية الفلسطينية وتضع قيودا بالقانون على النشاط السياسى عند العرب. ويشرح المقال باختصار المعنى السياسى لهذه الموجة. *** قطع حلول موسم القوانين العنصرية فى الكنيست مبكرا هذا العام محاولة الكاتب استغلال عودته المؤقتة للنشر أسبوعيا لكتابة سلسلة قصيرة من المقالات فيما يراه تنقية للمصطلحات السياسية العربية مثل «الحوار والمفاوضة» و«التمثيل والإنابة» و«تحسين صورتنا فى الغرب» والمعارضة و«مصلحة النظام» وغيرها إلخ. وسوف نعود لاحقا إلى هذه السلسلة إن شاء الله. ولكن ليس هنالك من مجال إلا لتلبية رغبة بعض الإخوة بالتطرق إلى سيل القوانين المقترحة فى الكنيست والتى تذهب كلها باتجاه ربط حقوق المواطن بموقفه الأيديولوجى، (وأكاد أقول الوجدانى) من الدولة اليهودية. إنها قوانين فى فرض الأسرلة قسرا. لا أكثر ولا أقل. والحقيقة أن الكنيست فى الدورات الثلاث الأخيرة (العقد الأخير) شهدت موجة من سن قوانين تقيّد حرية الرأى والتعبير بشأن يهودية الدولة وحق مقاومة الاحتلال. ويجرى العمل بها حاليا، أو محاولات سن قوانين تفشل ويعاد طرحها على طاولة البرلمان مرة بعد أخرى لاستنزاف معارضيها. فهل تتجه إسرائيل فعلا نحو الفاشية، وهل تراجعت ديمقراطية إسرائيل، بمعنى أنها كانت أكثر ديمقراطية من اليوم، أو هل تنقض حاليا على الحقوق الليبرالية المدنية بعد فترة من الازدهار؟ ما الموضوع بالضبط؟ يجرى فى إسرائيل تطور بخطين متوازيين (طبعا فيما يتعلق بموضوعنا): أ تعميق وتوسيع مفهوم وممارسة الحقوق المدنية للمواطن (والمقصود بذلك هو المواطن اليهودى). ب يجرى هذا بموازاة ازدياد التطرف القومى والدينى اليمينى مصحوبا بانتشار مظاهر العنصرية السافرة ضد العرب. ومن هنا فإن الفرد اليهودى حامل الحقوق المدنية التى لم تكن متطورة فى المجتمع الصهيونى شبه الاشتراكى الاستيطانى المجيّش هو فى الوقت ذاته فرد أكثر تأثرا بالدعاية اليمينية العنصرية ضد العرب. ومن هنا فالاعتقاد أن إسرائيل كانت أكثر ديمقراطية وأنها تتجه نحو الفاشية يذكرنى بهتاف كنا نهتفه بحماس ونية حسنة فى مظاهراتنا فى السبعينيات نقلا عن مظاهرات اليسار الإسبانى قبل الحرب الأهلية هناك وفى إيطاليا الثلاثينات: «الفاشية لن تمر». كم من الوقت تحتاج الفاشية لكى تمر؟.. الهتاف كله من سياق مختلف. إسرائيل هى استعمار استيطانى مر واستوطن. والفاشية نظام حكم عينى جدا، ليس ضروريا أن يقوم فى مجتمع مستوطنين مجيّش قام على أنقاض شعب آخر، خاصة أن هذا المجتمع قد نظم نفسه بشكل تعددى ديمقراطى، وهو موحد فى الأساسيات ومنها القيم العسكرية، وليس بحاجة لانقلاب فاشى فيه. وحتى شارون الذى كان مرشحا لقيادة انقلاب فاشى بنظر اليسار الإسرائيلى، كان فى فترة حكمه أكثر المدافعين عن حقوق المرأة، وأكثر المنحازين لتنفيذ قرارات المحكمة العليا. وهى محكمة ليبرالية فى داخل حدود الصهيونية وتحت سقف مسلماتها. لم تصبح إسرائيل أكثر أو أقل ديمقراطية بل توسعت فيها الحقوق المدنية فى وقت ازدادت فيه النزعة اليمينية العنصرية. *** بموازاة ذلك جرى فى أوساط المواطنين العرب فى الداخل تطوران متوازيان أيضا: تمثل الأول بازدياد الوعى لحقوق المواطنة والحريات المدنية بعد فترة سيطر فيها قانون والخوف من الحكم العسكرى والأجهزة الأمنية الإسرائيلية والعزلة عن العرب فى الوقت ذاته. كما تميزت بمحاولات إثبات الولاء للدولة فى خدمة الصراع اليومى على الحياة المادية، وللتقدم فى الحياة المدنية اليومية. وتمثل الثانى بازدياد الوعى الوطنى مع ارتفاع نسبة التعليم وتطور الحركة الوطنية الفلسطينية فى الخارج وتأثير وسائل الاتصال وتوسع الطبقة الوسطى، واتساع التواصل التنظيمى بين المواطنين العرب فى الداخل، والتبادل الثقافى والتجارى مع الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد نشأت إمكانية أن يؤدى وعى الحقوق عند العرب فى الداخل إلى نزعة اندماجية قائمة على مطلب المساواة فى الدولة اليهودية ذاتها كدولة يهودية. وهو مطلب غير ممكن التحقيق ويؤدى إلى التخلى عن الهوية الوطنية دون الحصول على مساواة، أى يؤدى إلى التهميش لا إلى الاندماج. وهذا الخطر على العرب ما زال قائما، فهنالك فئات سياسية عربية مقتنعة بهذا التوجه. من ناحية أخرى، على خط التطور الثانى نشأ خطر أن تفقد قوى وطنية فعلا علاقتها بالحياة المدنية الواقعية للناس باتجاه يؤكد فقط على الهوية الوطنية دون إطار الحقوق المدنية والمواطنة وحياة الناس فى الداخل، مما قد يؤدى إلى عزل الحركة الوطنية. وهذا خطر قائم أيضا وإن بدرجة أقل. ازدياد عدد القوانين يعنى أن إستراتيجية أخرى قد ضربت جذورها بين العرب فى الداخل تراها المؤسسة الإسرائيلية كخطر ماحق. ويتلخص هذا الخطر بالنسبة لإسرائيل بأن يرى الناس بحقوق المواطنة مناسبة للنضال من أجل المساواة وفى الوقت ذاته استغلال الحريات المدنية لممارسة الهوية الوطنية والتوعية الوطنية، بما فى ذلك مظاهر مثل إحياء ذكرى النكبة. وإحياء ذكرى النكبة سياسيا وحزبيا وجماهيريا ظاهرة جديدة عند عرب الداخل تعود إلى أوساط التسعينيات فقط. المهم أنه حتى أواخر السبعينيات وقبل انتشار الوعى الوطنى بقوة كان العديد من عرب الداخل يحيى يوم استقلال إسرائيل إما خوفا أو جهلا. وكان قادتهم حتى نهاية السبعينيات وأكثر، من أحزاب صهيونية وغير صهيونية، يهنئون إسرائيل بيوم استقلالها. ولم تكن هنالك قوانين ضد إحياء ذكرى النكبة، ليس لأن إسرائيل كانت أكثر ديمقراطية بل لأنه لم يكن من داع لها بنظر المؤسسة، إذا لم يحيِى العرب ذكرى النكبة أصلا.. وكان الإظهار السافر لعدم الولاء للدولة كدولة صهيونية نادرا. لم تتغير إسرائيل وحدها، بل تغيرت أيضا الثقافة السياسية لأوساط واسعة من عرب الداخل باتجاه وطنى يحىِى ذكرى النكبة ولا يرى تناقضا بين هذا وبين كونه مواطنا بل يستغل الحريات التى تمنحها المواطنة لممارسة سياسية يراها هو حقه الطبيعى وتراها إسرائيل بمجملها كمتناقضة مع المواطنة.. ويزداد هذا الموقف حدة طبعا مع تطور وتعاظم قوة الخطاب القومى اليمينى الدينى العنصرى فى تلك البلاد. ويكمن الفرق الذى حاولنا طيلة سنوات أن نبلوره فى أن المواطنة العربية فى الداخل ليست مواطنة أيديولوجية وطنية صهيونية ناجمة عن ممارسة قانون العودة الصهيونى، ولا هى هجرة أقليات وعمال إلى إسرائيل يوائمون أنفسهم مع الوضع القائم، إذ اختاروا الهجرة إليها، كما يفعل مهاجر إلى الولاياتالمتحدة أو فرنسا. إنها مواطنة اشتقت من بقائهم فى الوطن بعد احتلاله. إنهم سكان البلاد الأصليين، وليس من واجبهم التكيف مع طابع إسرائيل الصهيونى، ومحاولة تحويلهم إلى وطنيين إسرائيليين هى تزوير للتاريخ وتجنٍ على الحقيقة وتشويه للشخصية الحضارية وتفكيك للتماسك الأخلاقى. إن عربيا فلسطينيا يعتبر نفسه وطنيا إسرائيليا هو حثالة بشرية. هو الذى يقبل بأقل من مواطن وأقل من عربى فلسطينى ويتماهى فى الوقت ذاته مع قمع شعبه، ومع من صادر البلاد وشرد العباد. *** ما هو تهريجى وما هو فعلى طبعا لا يتسع المجال لدراسة كافة جميع جوانب الظاهرة. ولكن تلميحا فقط نقول إن هنالك تطورا ثالثا هو تطور المشهدية الإعلامية والسياسة الحزبية كسوق عرض وطلب ودور التهريج الإعلامى الذى يقوم به النائب فى البرلمان. هذا واقع فى كافة الأنظمة البرلمانية فى ظل دخول كاميرا التلفزيون إلى البرلمان. أصبح البرلمان مسرح، وبات الإغراء كبيرا لقسم كبير من النواب أن يصبحوا مهرجين، أو ممثلى دراما حسب الحالة. ولكن عندما يكون موضوع التهريج المفضل هو التحريض على العرب، فهذا يعنى أن العنصرية والآراء المسبقة منتشرة، وأن التحريض والتهويل والتخويف والافتراء على العرب ينتشر كالنار فى الهشيم. وهذا عنصر خطير وغير مضحك قائم فعليا فى ما نراه تهريجيا. قسم من القوانين أعلاه لن يمر بسهولة مثل اعتقال من لا يوافق على يهودية الدولة. ولكن باقتراحه للقانون يكون النائب العنصرى قد حقق مرماه بالظهور الإعلامى والتحريض لعل الجمهور يتذكر اسمه. ولكن يكون أيضا قد صب الزيت على نار العنصرية المتأججة. وقسم آخر من القوانين مثل منع إحياء ذكرى النكبة قد يمر كما مر فى السابق منع رفع العلم الفلسطينى. وربما لن تتمكن هذه الدولة من سن قانون يجبر المواطن على قسم ولاء خاص لأنه ليس مهاجرا، إنه مواطن بالولادة، ولا تمنح له المواطنة أصلا لكى يقسم قسم ولاء. وتغيير الوضع الدستورى ليصبح كذلك هو مهمة صعبة حتى شكليا. طبعا يصعب على أية دولة مهما بلغت شموليتها أن تفرض الولاء والتعاطف بالقوة، فما بالك بدولة استعمارية ترغب بفرض الولاء على السكان الأصليين بعد أن حولتهم من أكثرية إلى أقلية فى وطنهم؟ لا شك أن إسرائيل سوف تجد منع التظاهر بعدم الولاء أسهل تشريعيا من مظاهر فرض الولاء. هنا قمنا فى السنوات الأخيرة بطرح تفسير تجديد ما زالت إسرائيل ترفضه وقد دخلت معنا فى صراع يعرف القارئ نتائجه. ويفاجئ المواطن العروبى الفلسطينى إسرائيل به كل مرة، إذ يقول للسلطة الحاكمة فى إسرائيل: لا ولاء أكثر من العمل فى إطار القانون، ودفع الضرائب وغيرها. ولكن التواصل مع التاريخ الفلسطينى لا يمر عبركم، والتواصل مع الوطن العربى يجب أن يكون عربيا عربيا لا يمر عبركم، ولا بإذن منكم. لم تسمع إسرائيل فى الماضى مثل هذا الكلام، وكانت تسمع كلاما عن «مواطنيها العرب» كجسر سلام، وكقوة ديمقراطية إسرائيلية وكمعسكر سلام. يقول نفس هذا النمط الجديد من العرب: إن فلسطينيتى معطى قبل قيام دولتكم التى قامت على أنقاض شعبى، وإن المواطنة هى حل وسط بيننا لنتمكن من العيش هنا فى وطننا. المواطنة ليست معروفا تسدونه لى بشروط. من الواضح أن جزء كبير من المواطنين العرب يتبنى هذا الخطاب إلى درجة أن إسرائيل باتت تدرك أنها غير قادرة على وقفه بسنن الحياة المادية وضروراتها وبالأسرلة الزاحفة من خلال ظروف حياة الناس الإسرائيلية اليومية ومن خلال الواقعية السياسية الناجمة والمترتبة عنها والتى تنتج جميعها «عربا إسرائيليين». لم يعد هذا كله كافيا، من هنا فهى ترى أنها تحتاج إلى قوانين لوقف ما تعتبره مظاهر خطيرة من عدم الولاء. وهذه خطوات قمعية، ولكنها أيضا عبارة عن إعلان فشل الأسرلة.